مدونة شجون الروح: الهوية

التوقيت المحلي

اخر الاخبار

آخر الأخبار

الثلاثاء، 2 أبريل 2019

الهوية


مفهوم الهوية
المقدمة
تهدف هذه المداخلة إلى إبراز العلاقة التفاعلية بين الهوية بما تنطوي عليه من مقومات : كاللغة والدين والتاريخ المشترك، والوطنية وغيرها، أي كل ما يطبع جماعة بشرية ويميزها عن غيرها ، والتي تحمل دلالتها من المحددات الأساسية لثقافة الأمة، وبين مختلف الفضاءات المجتمعية التي ينتمي إليها الفرد وبما يرتبط به من علاقات ويمارسه من ادوار لإشباع حاجاته وتحقيق ذاته.
فرغم ما لعملية التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد في مراحل حياته المبكرة من أهمية بالغة في تشكيل شخصيته وفي تحديد هويته، إلا أن الهوية الفردية والجماعية تتكيف و تتأثر بالنظم  والأنساق الاجتماعية،وكذلك تبعا للأوضاع التي يعيشها الأفراد والجماعات وما يميز طبيعة علاقاتهم الاجتماعية.
وهذا  ما يقودنا إلى إدراك حقيقة أساسية وهي أن تمسك الأفراد  واعتزازهم بهويتهم يتفاعل مع الأوضاع التي يعيشها المنتسبين إليها وعن مدى وعيهم وتمثلهم لها، وعن مدى ما يسودها من قيم  وكذا على قدرتها في تمكينهم من تحقيق ذواتهم وإشباع حاجاتهم وضبط سلوكياتهم وتنظيم شبكة علاقاتهم لأنها تمثل محصلة الأفكار والمعتقدات والقيم والاتجاهات التي يكونها الفرد عن ذاته وعن الآخرين وعن بيئتهم ومجتمعهم.
ومن هنا تبرز الأهمية المحورية لمؤسسات المجتمع :التربوية والدينية والسياسية والاقتصادية في بلورة الهوية الفردية والجماعية بفضل ما يحكمها من قواعد وآليات في تنظيم سلوك الأفراد والجماعات وتحقيق مصالحهم، وهذا ما يثير التساؤل عن :
 - علاقة النظم الاجتماعية بالهوية
 - عوامل أزمة الهوية
وللإجابة عن هذه الإشكالية تم تقسيم هذه  المداخلة إلى المباحث التالية : مقدمة – الهوية الثقافية – وظائف الهوية الثقافية – التخلف الاقتصادي والحضاري وأزمة الهوية – النظام السياسي والهوية – الهوية

مفهوم الهـويـة  

تمثل الهوية  الخصوصية التي تميز جماعة بشرية عن غيرها: كالعيش المشترك، العقيدة، اللغة، التاريخ و المصير المشترك... ومن هنا فإن الهوية الثقافية تحمل دلالتها من المحددات الأساسية لثقافة الأمة، التي.عبر عنها مونتسكيو بـ: "روح الأمة" لأنها تمثل رمز وحدتها واستمراريتها. بحيث تتفاعل عناصر هذه الهوية ضمن هوية مركزية أو أرضية مرجعية    Frame Refernce تتحدد وفق المرجعيين التاليين:
- الثقافــة: إن الثقافة هي التي تمكن الفرد من التكيف والتوافق مع الجماعات الاجتماعية وتحقيق ذاته في إطار الجماعة والمؤسسات المجتمعية .
وضمن هذا السياق يعرف أحمد بن نعمان هوية أي أمة بمجموع الصفات أو السمات الثقافية العامة التي تمثل الحد الأدنى المشترك بين جميع الأفراد الذين ينتمون إليها والتي تجعلهم يعرفون ويتميزون بصفاتهم تلك عن سواهم من أفراد الأمم الأخرى ()، ويحدد الهوية الوطنية ضمن ثلاث مستويات:
- العموميات: وهي النظم ذات العلاقة الوطيدة بالهوية الثقافية التي يشترك فيها جميع المنتسبين  لهذه الثقافة ويخضعون ويلتزمون بها مثل: العقيدة الدينية، اللغة، الانتماء، المصير المشترك...و التي تمثل ما  عبر عنه دوركايم " بالأنا الجمعي" الذي يعكس ثقافة المجتمع، وكل مؤسساته الدينية والتربوية والقضائية والسياسية وبخاصة مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي يتحول بموجبها الفرد من كائن بيولوجي إلى شخص يحمل ثقافة مجتمعه ويمتثل لقيمه وضوابطه.
- البدائـل: وهي مجموعة من النظم أو السمات الثقافية التي لا تطبق أو تميز كافة أفراد المجتمع وبنفس الكيفية وإنما هي نظم وأنماط ثقافية اختيارية مثل نظام بناء السكن واختيار مكان الإقامة أو الحرفة...
- الخصوصيات: إذا كانت النظرة الخارجية للمجتمع تعطينا صورة عن طابعه الثقافي العام، وتسم هويته الوطنية بطابع خاص فإن النظرة إليه من الداخل تكشف لنا عن وجود خصوصيات ثقافية ذات علاقة قوية ببعض الفئات الاجتماعية التي تتحدد حسب السن والجنس والمهنة والمنطقة الجغرافية... ومن هنا فإن كان أفراد المجتمع يلتقون في العموميات الثقافية أو في بعض البدائل فإنهم قد يختلفون في الخصوصيات التي تظهر بوضوح لدى المجتمعات الكبيرة المتمدنة حيث تتعقد الحياة وتتعدد الأدوار وتتنوع العلاقات  تمثل ما عبر عنها دوركايم بالمجتمعات العضوية التي تتميز بتقسيم العمل والتمايز، محققة في النهاية عملية التكامل ضمن النسق الاجتماعي الكلي.
واستنادا إلى ما  سبق ذكره تختلف الهويات الثقافية تبعا لخصوصيات الأمم والشعوب إذ نجد هويات ثقافية تتطابق تماما مع الوطن والأمة كما هو الحال على سبيل المثال في ألمانيا ويمكن أن تشمل الهوية الثقافية عدة أوطان كما هو الحال في الوطن العربي المنتمي للحضارة العربية الإسلامية، كما نجد الوطن الواحد قد يجمع شتاتا ثقافيا مختلفا من حيث المعتقدات واللغات والأعراق، بحيث تشكل الهوية الوطنية مرجعيته الأساسية كما هو الحال في أمريكا، وهو ما تسعى إليه أوربا حاليا لتجعل المواطنة الأوربية المرجعية التي توحد فسيفسائها الثقافية. وهذا ما يقودنا إلى إدراك حقيقة أساسية وهي أن تمسك الأفراد واعتزازهم بهويتهم يتفاعل من الأوضاع التي يعيشها المنتسبين إليها وعن مدى ما تحققه من قيم العدل والحرية والمساواة وكذا على قدرتها في تمكينهم من تحقيق ذواتهم وإشباع حاجاتهم وضبط سلوكاتهم وتنظيم شبكة علاقاتهم لأنها تمثل محصلة الأفكار والمعتقدات والقيم والاتجاهات التي يكونها كل فرد عن ذاته وعن الآخرين وعن بيئته ومجتمعه.
وهذا ما تفتقده الساحة العربية التي تتسم بالتشرذم والانشطار الثقافي والتأزم،  الأمر الذي وضع سياسات الحكومات –  على اختلاف إيديولوجياتها- على المحك منذ هزيمة 1967 والأزمات التي طالت مناطق إسلامية كثيرة كحرب الخليج واحتلال العراق... لأنها تمثل الحصاد المر للسياسات الاستبدادية التي جعلت الهوة تتعمق بين الحاكم والمحكوم، وذلك لأن الحكومات العربية لم تبد اهتماما ونجاحا ببناء شرعيتها السياسية وتجسيد أيديولوجية الوحدة الوطنية بقدر انشغالها من توطيد حكمها الأوتوقراطي (). إن فشل المجتمعات العربية عموما في تحقيق مشاريعها الاجتماعية، وتفشي مظاهر الإحباط والفساد وتبلور القيم والاتجاهات السلبية نحو الكثير من رموزها وقضاياها، قد ساهمت بشكل لا مراء فيه في الانشطار الثقافي وظهور ثقافات فرعية صراعية عبر عنها كلود وأوهلين بالثقافة الفرعية الانسحابية التي تؤدي إلى اسنحاب أعضاء هذه الثقافة نتيجة مشاعر الإحباط () والعجز والضياع وعدم إشباع حاجات الفرد النفسية والاجتماعية والاقتصادية في إطار الثقافة العامة بدلا من أن تكون هذه الأخيرة هي الملهمة للسلوكات الإيجابية الفعالة والنافعة، من خلال ما يتشربه الفرد من منابعها،  كما تتبلور في سلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
لذلك فإن بروز ما يعبر عنه بالظواهر اللاوظيفية ضمن النظم والأنساق الاجتماعية قد تؤدي بدورها إلى بروز أنماط وقيم ثقافية سلبية تعبر عن هذه المظاهر: كالثقافات الجائحة والصراعية وغيرها.
- وظائف الهوية
أ‌- الوظيفة الاجتماعية : إن الوظيفة الأساسية للهوية الثقافة هي أن تجمع أعدادا من الناس في بوتقة جماعة مميزة وخاصة، فثمة عوامل أخرى تساهم أيضا في الوصول إلى النتيجة نفسها: كروابط الدم، والقرب الجغرافي والسكن وتقسيم العمل، ولكن هذه العوامل التي يمكن أن نسميها عوامل موضوعية تتبدل كما أنها تفسر من جديد في الثقافة وبالثقافة، فالثقافة هي التي تعطي لهذه العوامل معنى وبعدا يتجاوز كثيرا معانيها وأبعادها التي كانت لها أصلا، وهكذا فإن روابط الدم تصبح روابط قربى وتتسع هذه الروابط وتتعقد بسبب نظام المحارم والقواعد التي تحدد الزواج المباح والزواج المحرم، وبسبب المعايير التي تنظم العلاقات بين الأشخاص من الجماعة القرابية نفسها، وكذلك الشيء نفسه أيضا فيما يتعلق بالسكن أو بتقسيم العمل حيث تستخدم الثقافة هذا أو ذاك من أجل أن تصنع فكرة الأمة والوطن والملكية الخاصة والمكانة الاجتماعية وغيرها، إن هذه جميعها ليست أفكارا فحسب وإنما هي وقائع ساهمت الثقافة في صنعها واستمرارها.
لذلك تبدو الهويةلثقافة وكأنها عبارة عن عالم عقلي أخلاقي رمزي، مشترك بين أعداد من الناس، وبفضل هذا العالم ومن خلاله يستطيع هؤلاء أن يتصلوا فيما بينهم ويقروا الروابط التي تشد بعضهم إلى بعض والقيود أو المصالح المشتركة ويشعروا أخيرا أن كل فرد على حده وجميعهم كجماعة بأنهم أعضاء في كيان واحد يتجاوزهم ويشملهم جميعا، وهذا ما نسميه تجمع أو جمعية أو جماعة أو مجتمع().
ب‌-     الوظيفة النفسية :  تؤدي الهوية الثقافية -على الصعيد النفسي- وظيفة "قولبة" الشخصية الفردية، أي أنها  في الواقع نوع من القالب تتشكل في بوتقته شخصيات الأفراد النفسية، وذلك لأنه يقدم لهم نماذج من التفكير ومن المعارف والأفكار والقنوات المفضلة للتعبير عن العواطف أو وسائل إشباع الحاجات...
ولكن هذا القالب ليس جامدا بصورة مطلقة، فهو طيع نوعا ما لدرجة أنه يسمح  للأفراد بالتكيف مع هذا النسق المتكامل، وهذا ما يسمح نسبيا  لكل شخص بأن يتمثل الثقافة بطريقة تتوافق مع خاصيته أو طبيعته، ومن هنا تبرز شخصية الفرد التي رغم أنها نتاج لعملية تثقيفية خضع لها، إلا أنها لا تخلو من الخصوصية التي تميز كل فرد عن الآخر، فضلا عن ذلك فإن الثقافة تتيح لنا خيارات واختيارات بين القيم المتنوعة وبين النماذج المتفاضلة المتغيرة والمتحولة حسب الخصوصيات الثقافية. ولكن هذه المطواعية أو اللّيونة تتم داخل حدود الإطار الثقافي لأن تجاوز هذه الحدود الموضوعية يعني أن الفرد أصبح هامشيا في المجتمع الذي هو عضو فيه.

التخلف الاقتصادي والحضاري وأزمة الهوية :

تتأثر الهوية بما تحمله من مقومات : الهوية الوطنية، الدين، اللغة والثقافة بوجه عام بالتباين الاقتصادي والحضاري بين المجتمعات المتخلفة ونظيراتها في العالم المتقدم ، إذ تنشأ أزمة الهوية لدى فئات كثيرة من المجتمع كنتيجة لإدراكهم للتفاوت الكبير بين مجتمعاتهم ومجتمعات العالم المتقدم من حيث مستويات التقدم والرفاهية التي بلغتها وكذا درجة ممارسة الحقوق الفردية والجماعية إذ أن" اللاعدالة الاجتماعية" والحرمان من الحقوق والتهميش ومصادرة الرأي المخالف في العديد من دول العالم الثالث من العوامل الأساسية عن فقدان الثقة لدى الأفراد في مجتمعاتهم وما يحكمها من مؤسسات ونظم سياسية واقتصادية واجتماعية بل وفي مقومات هويتهم ذاتها معتبرين أن تلك المقومات والنظم هي سبب تخلفهم.
ويمتد الأمر ذاته إلى مثقفي العالم الثالث بما في ذلك العالم العربي إذ يدعون باسم " الحداثة" التي تبين قيم و ثقافة الغرب ونظم السياسية والاقتصادية على اعتبار أن ذلك هو السبب الوحيد للحاق بركب التقدم والمدينة (1) وفي هذا الصدد يرى مالك بن   أن الأمة الإسلامية والعربية  أحست ـ ويعني بذلك بعد استقلال تلك الدول - بآلامها المزمنة فأسرعت إلى صيدلية الغرب أملا في أن تشفى من عللها وآلامها لكن أي صيدلي ؟ وبأي دواء؟ ناسية أن العلاج لن يكون إلا في صيدليتها وفي إطار ثقافتها، أليس أكثر اغترابا وتشويها أن يقطع لسان الأمة ( لغة الحضارة الإسلامية والقرآن الكريم) وتبذل الجهود وترسم السياسات لاستبداله أو استيراد لسانا غربيا كأي سلعة استهلاكية أخرى، بدعوى عدم قدرتها على استيعاب علوم وتقنيات العصر في حين تنقب أمما أخرى في تاريخها وفي موروثها الثقافي لتجعل من لغتها رمزا لهويتها وبناء حضارتها، كما هو الحال في اسرائيل مثلا. كما نجد أمما أخرى – بفضل تمسكها بهويتها-جعلت أكثر الأمم تقدما وفي زمن العولمة تنحني أمامها وتتكلف عناء تعلم لغتها المعقدة لتيسر التواصل معها، تحقيقا لمصالحها كما هو الحال في الصين.
إن الكثير ممن تسوقوا في العالم العربي إلى الصيدلية الاشتراكية اعتبروا الثقافة متغيرا تابعا وفق الطرح الماركسي والأكثر من ذلك اعتبروا أن الكثير من رموز الثقافة تمثل عائقا في سبيل تقدم وتحضر المجتمع.
 كما أن الهجمة التي تشن على رموز الثقافة العربية الإسلامية:( الدين الإسلامي، الرسول صلى الله عليه وسلم ،الشخصية العربية ، اللغة العربية...) ستضاف إلى التحديات التي تواجهها،والتي تتطلب من المعنيين والمثقفين والمفكرين وولاة الأمور مراجعة الذات لتشريح  هذا الوضع المتأزم وتشخيص الواقع الثقافي العربي تشخيصا علميا وموضوعيا لإيجاد العلاج الناجح لآلمها  وأوجاعها ،وإعادتها إلى دائرة التاريخ .

النظام السياسي والهوية:

يمثل  النظام السياسي للفرد فضاءا للتعبير الحر واختيار البدائل المطروحة من خلال برامج الأحزاب السياسية التي تعبر عن مشاريع مجتمعية ، مما يضمن مصالح وتطلعات الأفراد بما في ذلك القضايا المرتبطة بهوية الأمة.
الأمر الذي سيسمح من توجيه هذه القضايا نحو تحقيق تطلعات ومصالح الأغلبية، وتعزيز قدرات الفاعلين الاجتماعيين نحو تحقيق التوافق والقدرة على التأثير على صناعة القرارات المصيرية في حين يؤدي غياب المشاركة الفعلية في المجال السياسي ـ التي تعتبر من  أهم  مؤشرات الحداثة السياسيةـ إلى الشعور  بالتهميش واللامبالات والاغتراب النفسي والاجتماعي وفي هذا المجال حدد لوسيان باي  خمس مؤشرات للتخلف السياسي من أهمها أزمة الهويةالتي تؤدي إلى تغييب فكرة الترابط الوثيق بين أفراد المجتمع وإثارة الفرقة بين صفوفهم.
كما تشير هذه الأزمة إلى غياب فكرة المواطنة، بما يعنيه ذلك من انتقاء الولاء السياسي الموحد والشعور بالظلم والاستبداد.
لذلك فان التخلف والاستبداد من أهم عوامل التخلف والتطرف و التشرذم الثقافي في دول العالم الثالث وفي العالم العربي حيث ظل الاستبداد احد مظاهر النظم السياسية في التاريخ العربي وكان من أهم مطالب الحركات الإصلاحية والفكر النهضوي عموما مثل: الافغاني، الكواكي، الطهطاوي وغيرهم ، إذ يرون أن الاستبداد السياسي هو السبب الجوهري في تختلف الأمة وتشرذمها .........

الهوية وتحديات العولمة:

 تمثل العولمة درجة متقدمة من التفوق الرأسمالي كما يراها بعض مفكري الغرب من امثال هينتينجتون القائل بصدام الحضارات ، وفوكوياما القائل بنهاية التاريخ، وامتدادا لما يعرف بالمركزية الأوربية التي تستقي أصولها من منابع فكرية وفلسفية غربية تتصدرها فلسفة هيجل من خلال مقولته نهاية التاريخوالمبررة لسيادة الغرب واستعمار الشعوب، اذ يقول" تلقى الشعوب دائما المصير التي تستحقه" مرورا يمونتسكيو ووصولا إلى وضعية كونت... الأمر الذي جعلها تشيد نسقا من التصورات الفكرية والأفكار التطورية التي تضع أوروبا  في موقع المركز التاريخي
من هذا المنطلق أسس الغرب لهويته واكتسب شعورا جارفا بالتفوق، أكدها بنهضته العلمية التي جعلته يمتلك أدوات السيطرة وعززت إحساسه بالتفوق والتميز وهو ماعبر عنه ديكارت حين أشار إلى أن أوربا تتميز عن الأقوام المتوحشة والهمجية بتشييدها التيار العلمي، وجعل عصر النهضة – حسب هيجل- الأوربيين يدركون أنهم أصبحوا قادرين عن قيم العالم كله وقد تجسدت هذه المركزية في أبشع صورها في استعمار الشعوب وإبادتها ومسخها ثقافيا .
واليوم تطل علينا العولمة بتحدياتها التي اختلفت فيها مواقع ومعايير القوة وأدوات السيطرة وذلك باعتبارها درجة متقدمة من تطور الرأسمالية، على حساب الأطراف الضعيفة والمتخلفة التي ستتحمل دون شك تداعياتها وإفرازاتها ومنها العالم العربي الذي يعيش واقعا متأزما: اقتصاديا وسياسيا وثقافيا يطبعه الإحباط والتشرذم
ففي المجال الثقافي يرى ابراهيم عبد الله: ان المعضلة الرئيسية التي استوطنت الثقافة العربية الحديثة تكمن في محاولتها للتماثل والمطابقة بالثقافة الغربية، مما منعها من بلورة أطرا فاعلة تمكنها من الحوار والتفاعل الايجابي فاقتصرت على سلسلة من المحاكاة البائسة إن كان من موقف القبول أو الرفض (التغريب /الانغلاق) داعيا إلى نقد طبيعة العلاقة التي تربط الثقافتين( الغربية/العربية)و إلى وضع فواصل رمزية تمهد لتفاعلهما المثمر يفضي إلى نوع من الاختلاف الثقافي بدل المطابقة لا يهدف إلى القطعية بل لتنمية عوامل اختلاف جوهرية واعية تعمل على تغذية الذات الثقافية متصلة ببعدها التاريخي وفي البحث عن حلول لأسئلتها الخاصة للخروج من الثنائية الضدية التي قادت إلى انقسام الوعي العربي بين مرجعيتين الأولى امتثالية تدعوا إلى التماهي بثقافة الغرب والثانية تتعلق بهوية ثقافة صافية متصلة بنموذج فكري تجاوزه الواقع وعلى المستوى  الواقعي فان تجربة الإخفاق هي التي أطلقت شرارة أزمة الهوية التي دفعت الكثيرين  للتشكيك باتجاه الارتقاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والجنوح إلى التقوقع بحثا عن القوة والتوجيه .

خلاصة

تمارس الدولة وظائفها في مجتمع إنساني له  ثقافتة وهويته وقيمه وأفكاره ومؤسساته المختلفة فالدولة الوطنية القائمة على المؤسسات التي.يحقق الفرد من خلالها لذاته ويشبع حاجاته ويشعر بالانتماء بفضل تجسيد مفهوم المواطنة التي تمثل الإطار الذي يمكنه من استيعاب كل الخصوصيات الثقافية.
ولذلك فان فشل إقامة الدولة الوطنية التي تجعل الهوية الوطنية تطغى على كل الخصوصيات الثقافية بل إنها تصبح ثراء للهوية. فبقدر ما تعزز مفهوم "الأنا" كذات فردية تتمتع بحقوقها ،وتمارس خياراتها بحرية،فإنها في ذات الوقت تدعم انتماءات الفرد للفضاءات الاجتماعية المختلفة بما في ذلك الفضاء الاشمل (الوطن) بما يقوي من مفهوم "نحن" وفي هذا الصدد يرى برهان غليون ان البحث في الدولة وفهم مشكلاتها يشكلان المدخل الرئيسي لتحليل وفهم الأزمة الشاملة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تعيشها المجتمعات العربية
ولعل أزمة الهوية من أهم مشكلاتها: فالتشرذم والانشطار الثقافي ،والتطرف،والاغتراب،واللامبالاة وغيرها والتأزم الأمر الذي وضع سياسات الحكومات – على اختلاف إيديولوجياتها – على المحك منذ هزيمة 1967 والأزمات التي طالت مناطق إسلامية كثيرة كحرب الخليج واحتلال العراق.... لأنها تمثل الحصاد المر للسياسات الاستبدادية التي جعلت الهوة تتعمق بين الحاكم والمحكوم، وذلك لان الحكومات العربية لم تبدي اهتماما ونجاحا ببناء شرعيتها السياسية وتجسيد إيديولوجية الوحدة الوطنية بقدر انشغالها في توطيد حكمها الأوتوقراطي
إن فشل المجتمعات العربية عموما في تحقيق مشاريعها الاجتماعية، وتفشي مظاهر الإحباط  والفساد وتبلور القيم والاتجاهات السلبية نحو الكثير من رموزها وقضاياها قد ساهمت بشكل لا مراء فيه في الانشطار الثقافي وظهور ثقافات فرعية صراعية عبر عنها كلود واوهلين بالثقافة الفرعية الإنسحابية التي تؤدي إلى انسحاب أعضاء هذه الثقافة نتيجة مشاعر الإحباط والعجز والضياع وعدم إشباع حاجات الفرد النفسية والاجتماعية والاقتصادية في إطار الثقافة العامة بدلا من أن تكون هذه الأخيرة هي الملهمة للسلوكيات الايجابية الفعالة والنافعة من خلال ما يتشربه الفرد من منابعها كما تتبلور في سلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قناة منى اليريمي

 |قناة منى اليريمي|    قناة تعليمية متخصصة في مادة اللغة العربيةتنشر ثقافة العربية بصورة  شيقة وميسرة تجعلها سهلة  التناول لمن يرغب في تطوير...