تعريف المواطنة:
إن
المواطنة في الزمن الماضي لم يكن لها أثر بين الناس، ولم يكن يثار بسببها جدل أو
نقاش، ومن خلال التاريخ الإسلامي الماضي وخلال مراحله السابقة التي اختلط فيها
المسلمون بغيرهم من أهل الثقافات الأخرى كانت حياة الجميع مستقرة، قائمة على
الاعتراف بالذات، سواء كان ذلك في ديار الإسلام أو في غيرها، لوضوح التعامل بين
المسلمين وغيرهم من أهل الديانات الأخرى، والتزامهم الدقيق بشريعة الإسلام نظراً
وتطبيقاً، فكان الناس يعيشون تحت مظلة واحدة، وبلد واحد، ولكن في عصرنا الحالي
أصبحت المواطنة من أكبر المشكلات المثيرة للجدل سواء كان ذلك في ديار المسلمين أو
في غيرها، بسبب المفاهيم المختلفة التي وردت من غيرنا، أو مما أضيفت من أهل
الإسلام.
ومن المسلم به أن الإسلام هو أول الشرائع التي حثت على الوحدة بين الناس كافة، فلم تفرق بين أحد إطلاقاً إلا في التقوى، ولكنها شريعة جاءت بالعدل والحق والمساواة في الحقوق بين البشر كافة، قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
إن لفظة المواطنة ليس لها وجود في اللغة العربية أو الأدبيات الإسلامية، ولكن لها مفهوم عام، لذا وهناك فرق بين المفهوم والاصطلاح، فالمفهوم يحاكي الفكرة، والمصطلح يحاكي اللفظ الذي يعبر عن هذه الفكرة.
فعند تناول مسمى المواطنة نتناولها من حيث المفهوم، وننزل هذا المفهوم ونسقطه على النصوص الشرعية في الإسلام، أو غيره من أدبياته.
والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعني: علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق متبادلة في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات.
وأما التعريف الإسلامي للمواطنة: فهو ينطلق من خلال القواعد والأسس التي تبنى عليها الرؤية الإسلامية لعنصري المواطنة، وهما الوطن والمواطن، وبالتالي فإن الشريعة الإسلامية ترى أن المواطنة هي تعبير عن الصلة التي تربط بين المسلم كفرد وعناصر الأمة، وهم الأفراد المسلمون والحاكم والإمام، وتتوج هذه الصلاة جميعا الصلة التي تجمع بين المسلمين وحكامهم من جهة وبين الأرض التي يقيمون عليها من جهة أخرى، وبمعنى آخر فإن المواطنة هي تعبير عن طبيعة وجوهر الصلاة القائمة بين دار الإسلام وهي (وطن الإسلام) وبين من يقيمون على هذا الوطن أو هذه الدار من المسلمين وغيرهم.
أجل: إن المواطنة انتماء وموالاة لعقيدة، وقيم ومبادئ انتماء تغمره أحاسيس العزة ويكلله الفخر، وموالاة تعكسها سمات التضحية وتترجمها معاني الإيثار.
مصطلحات أخرى حول المواطنة:
إن المواطنة لها ارتباطات ببعض المصطلحات الأخرى والتي قد تعبر عنها، أو تكون قريبة من مفهومها، أو هي جزء من محتواها، ومن ذلك:
أولاً: الانتماء: فهو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس وإخلاص للارتقاء بوطنه ورفع شأنه والدفاع عنه ممن يريدون إضعافه أو إفساده أو إخراجه عن الخير الذي يعيش فيه.
مفهوم الانتماء: يعد مفهوم الانتماء الوطني من المفاهيم العالمية، والمهمة في عالمنا المعاصر والذي أصبح من المفاهيم المتكررة في سائر وسائل الإعلام سواء المرئية أو السمعية، بل أصبح مفهوماً رئيساً في حياتنا العامة.
وقد عرف هذا المفهوم لغة: بأن معناه الانتساب، فانتماء الولد إلى أبيه انتسابه إليه واعتزازه به، والانتماء مأخوذ من النمو والزيادة والكثرة والارتفاع فالشجر ينمو وكذلك الإنسان.
كما عرف البعض الانتماء اصطلاحاً: بأنه الانتساب الحقيقي للدين الإسلامي والوطن فكراً ومشاعر ووجداناً، واعتزاز الفرد بالانتماء إلى دينه من خلال الالتزام بتعاليمه، والثبات على منهجه، وتفاعله مع احتياجات وطنه، ويظهر ذلك من خلال بروز محبة الفرد لوطنه والاعتزاز بالانضمام إليه
والتضحية من أجله.
والانتماء الحقيقي يشتمل على قيم عالية سامية، تتمثل في محبة الفرد لمجتمعه، وحرصه عليه وتفاعله مع جميع أفراده وخاصة عندما يكون هذا الوطن وطناً إسلامياً بمعنى الكلمة.
ثانياً: القومية: وهي مشتقة في اللغة العربية من (قوم)، والقوم جماعة من الرجال والنساء جميعاً، وقوم كل رجل عشيرته.
والقومية حالة عقلية، ونمط للرغبات والاهتمامات، وتشير القومية إلى مرحلة تاريخية وصلت من خلالها شعوب وأمم إلى تكوين وحدات سياسية معينة وتبوأت مكانها تحت الشمس.
والقومية روح ومبدأ روحي، أي أنها تعني التضامن الحق الذي تخلقه عاطفة المستقبل، وتعترض القومية ماضينا، ولكنا نثبت وجودها في الحاضر بحقيقة ملموسة هي الرضا، والمقصود بالرضا هو رغبة مجموعة بشرية معينة رغبة أكيدة وواضحة في العيش معاً وفي الاستمرار في ذلك مستقبلاً.
إن جوهر القومية شعور نفسي، إذ هي حالة عقلية وطريقة للحياة، ومعنى ذلك أنها اعتقاد لدى الأفراد بأنهم يرتبطون بجماعة واحدة تشترك في مواريثها الاجتماعية، وتقاليدها وأسلوب حياتها.
فالإنسان يحب أمته تحت تأثير النزعة القومية، ويشعر بارتباط قلبي نحوها، ويؤيد أمجادها ويفتخر بها، ويتألم بمصابها، كما أن الإنسان يحب وطنه تحت تأثير النزعة الوطنية فيفجع لنكبته ويسعى لخدمته، ولا يتأخر عن التضحية في سبيله.
إن الوطنية قائمة يعيشها الإنسان العربي، وهي واقع طبيعي لا يهدد القومية العربية، ما دامت ليست هدفاً بذاتها، بل بعداً من أبعادها، أما إذا صارت هدفاً بذاتها فتعتبر إقليمية وليست وطنية، والأمة العربية والأسس التي تقوم عليها قوميتها لا تسمح بذلك فلا خطر على القومية من الدعوة إلى الوطنية. فالقومية في وقتنا الحالي تقوم على عدة عوامل، ومن ذلك: العامل التاريخي، واللغوي، والاجتماعي، والجغرافي، والاقتصادي، والسياسي، والديني العقائدي، والوطني، فكل ذلك يزيد من ارتباط القوم معاً، وخاصة إذا ارتبطت الأمة بالعامل الديني العقدي.
ولكن هذه القومية تضعف ولا يكون لها قوة ولا تمساك ما دامت ترتبط بغير رباط الدين، فكل أمة تقوم على هذه القومية ولا يكون لها عقيدة صحيحة قوية فهي أقرب إلى الزوال.
وهذه القومية قريبة من الوطنية، ولكن تختلف معها في بعض الجزئيات الأخرى، والتي تختلف باختلاف القائلين بها والمطبقين لها في حياتهم.
ثالثاً: الأُمَّة:
والأُمَّةُ لغة: السُّنَّةُ في الدِّين، من قوله عز وجل:{إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنا على أُمَّةٍ}، وكل قوم نسبوا إلى نبي فهم: أمته.وكل جيل من الناس: أمة على حدة. وهي من الجماعات: ما بين الأربعين إلى المائة.
واصطلاحاً: هي الجماعة البشرية المتماسكة وفق نظاميها الاجتماعي والثقافي. وللأمة روح واحدة تتجلى في وحدة عناصر مثل: اللغة، والعرق، والدين، والعادات، والتقاليد([7](.
وهذا التعريف ينطبق على الأمة العربية التي محور اتحادها اللغة في حين أن الأمة الإسلامية محور اتحادها هو الدين الإسلامي العظيم بفحواه الظاهر والباطن.
والأمة معناها قريب من الوطنية إلا أنها تختلف باختلاف الدولة أو الدول التي يعيش فيها الناس، فكل أمة تختص بشيء ربما يكون مغايراً لغيرها من الأمم كاللغة، أو اللون، أو الأرض، أو الدين، أو غير ذلك؛ فهي ترتبط ببعضها البعض حسب ما ذكرناه سابقاً.
رابعاً: الشَّعْب:
الشعب يطلق عليه: أمة ما إنما تنحدر بصفة عامة من أجناس وأصول عرقية مختلفة اختلطت مع بعضها البعض بفضل التكتلات البشرية والغزوات والحروب، وتحكم الشعب تجربة تاريخية مشتركة، ويربط بين أفراد الشعب الأصل والتاريخ، واللغة والأرض.
والشعب مجموعة من الأفراد تتميز عن باقي المجتمع بميزة أو أكثر مشتركة بينهم كالإقامة في منطقة معينة أو الجنس، أو المهنة أو العقيدة السياسية.
وقد يراد بالشعب العامة من الناس كأبناء الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين وغيرهم بخلاف الطبقات العليا.
والشعب لا غنى له عن الوطنية ما دام أنه متمسك برباط الحق والعدل، ويقوم على ذلك الطريق الذي يوصل إلى التماسك والترابط والتجانس بين أفراد الشعب.
خامساً: الجنسية:
الجنسية عبارة عن علاقة بين فرد ودولة، وبناء على هذه العلاقة تمنحه هذه الدولة جنسيتها بناء على ولاءه لها، والذي يستخدم كمصطلح عام للإشارة إلى مجموعة التزامات يلتزم بها هذا الفرد تجاه الدولة التي ينتمي إليها.
وهي تشير أيضاً إلى وضع الأفراد من وجهة نظر القانون الدولي بمعنى كل فرد له رابطة بدول معينة ينتمي إليها وتمنحه جنسيتها بغض النظر عن ماهية الحقوق والواجبات التي تعتمد على دستور وقوانين الدولة، ومن ثم ليس بالضروري أن تحوي الجنسية حق ممارسة الحقوق والوظائف المدنية والسياسية، وبالتالي يكون للجنسية معنى أوسع من المواطنة التي قد تستخدم أحياناً كبديل لها.
والجنسية أيضاً تكتسب السمة الدولية، بينما ترتكز المواطنة على الإطار الوطني، فهي تميز بين الداخل والخارج، تعبر فيه المواطنة عن العلاقة القانونية بين الفرد والجماعة السياسية التي ينتمي إليها وتتحول إلى علاقة بين دولتين أو أكثر، بمناسبة الوضع القانوني للفرد من ناحية ثانية.
المواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية:
إن من المغالطات التي يبثها أعداء الإسلام الإيهام بوجود التعارض بين الوطنية بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام كشريعة متكاملة، وما هذا إلا حيلة للنيل من الإسلام والقدح فيه، وهو استغلال للمحبة الغريزية للوطن، لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعضاً من مصالح الوطن، وذلك باتخاذ بعض أحكام الشريعة التي تصادم مطالب الوطنية حجة لهم في النيل من عظمة الإسلام وقوته واستحقاقه.
إن العقيدة الإسلامية هي أساس وطنية المسلمين، ولذلك فحدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى ثانياً، ومن ثم يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة، وشعور الوطنية العامة؛ لأن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص فيها: أن يعمل كل إنسان الخير لبلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم القليل والكثير من أجل رفعة شأنه وتقدمه.
إن المسلم يكون ولاؤه أولاً وآخراً لله تعالى ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ويتمثل ذلك بعبوديته لربه، وإخلاصه له في كل عمل يقوم به، واتباع شرعه.
ثم ينتقل بعد ذلك ولاؤه إلى إخوانه من المسلمين، وذلك بالتعاون معهم في اتباع المنهج الحق، والقيام به، والتناصح من أجله، والعمل على نشره، ورفع قدره بين الناس.
فرابط الولاء يمثل الأمة الإسلامية جمعاء، لا لكونهم في مجتمع واحد، أو أنهم ينحدرون من عرق واحد، أو من أجل اشتراكهم في لغة واحدة، إنما يجمعهم رب واحد، ودين واحد، ونبي واحد.
إن المواطنة من مفهومها السابق والمستمد من الشريعة الإسلامية الغراء لا يتعارض مع الانتماء إلى الأمة الإسلامية، ولكنها تتعارض مع الوطنية التي تكون سبباً في تنازع الأمة وتقسيمها إلى طوائف متناحرة وأحزاب مختلفة، والتي تركن إلى شرائع وضعية شكلتها الغايات المادية، وفسرتها الأفهام القاصرة وفق المصالح والأهواء.
إن الوطنية التي يتمسك بها كل مسلم تلك الوطنية التي تأخذ حظها من الشريعة الغراء، والتي تهدف إلى تقوية الرابطة بين أبناء البلد الواحد على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ودياناتهم، واستخدام تلك الرابطة في تقوية المصالح المشتركة التي تعود على الوطن بالخير والنماء والأمن والأمان.
والمواطنة في الإسلام تستوعب جميع المواطنين في دياره، دون إهدار حقوق الأقليات غير المسلمة، أو المسلمة، من غير إثارة للنعرات القومية والتي تتعدد بصورها المختلفة.
وهي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم المتمثلة بحقوق الإنسان لقيامها على قاعدة التسامح، فهي تحترم الواقع وليست مجرد شعارات، وهي أداء بناء واستقرار، لا وسيلة تهديم وتفريق وزرع مشكلات كما هو شائع في بلاد الغرب، إنها مفهوم يعتمد على أساس الحرية والمساواة.
وقد ظهر ذلك جلياً حينما أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد المواطنة بين المسلمين واليهود وغيرهم ممن لم يدخل في الإسلام، والتي أطلق عليها (صحيفة المدينة)([8])، وهي التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة.
وقد تضمنت تلك الصحيفة قضايا المواطنة وحقوق المواطنين ووجباتهم، مع الاتفاق على إنشاء تحالف عسكري بين جميع طوائف المدينة ضد الأعداء، ومنع أي تعاون مع المشركين ضد المسلمين، والتي سوف نتكلم عنها بالتفصيل
عناصر المواطنة:
المواطنة تقوم على عناصر محددة لا تخرج عنها إلى غيرها، ومن تلك العناصر:
أولاً: الوطن: وهو في اللغة العربية محل الإنسان، فهو السكن، وهو المنزل، أو البيت الذي يقيم فيه، ولم تذكر معاجم العربية سوى الأصل لهذا اللفظ إلا هذا المعنى.
وقد عرف بعض العلماء الوطن لغة: بأنه الأرض التي ينشأ عليها الإنسان ويتخذها مقراً له.
وعلى ذلك فإن الأرض التي ينشأ عليها جماعة ما ويتخذونها مستقراً ومقاماً لهم تعتبر وطناً لتلك الجماعة، والوطن عند أهل السياسة هو مكانك الذي تنسب إليه، ويحفظ حقك فيه، ويعلم حقه عليك، مؤمن فيه على نفسك وأهلك ومالك.
ولهذه الكلمة معان اصطلاحية عديدة، منها:
1ـ الوطن الأصلي: وهو مكان مولد الإنسان، ونشأته.
2ـ وطن الإقامة: ويسمى بوطن السفر، وهو الوطن (المستعار) الحادث، وهو ما خرج إليه المرء بغية الإقامة فيه لمدة محددة من غير أن يتخذه مسكناً.
فالوطن إذن هو:(البلد الذي ولد فيه المرء، أو البلد الذي ينسب إليه المرء من حيث جنسيته أو تبعيته).
وهو المكان الذي يولد فيه الإنسان، ويقيم فيه، وينشأ ويترعرع بين أحضانه، ويرتبط فيه بالناس.
ثانياً: المواطن: وهو فرد من الأفراد ينتمي إلى وطن ما، ويكون هذا المواطن صالحاًَ في نفسه، صالحاً في مجتمعه، باذلاً لجهده في خدمة وطنه، وتقديم كل الامكانيات المتاحة من أجل حفظ كيانه، ورفعة شأنه، والذود عن حياضه.
فارتباط المواطن بوطنه يكون ارتباطاً نابعاً من الفطرة، والألفة، والانتماء الصادق لهذا الوطن، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى وطن أو دولة معينة، ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل لصالح لهذا الوطن، وتصبح المصلحة العامة التي تخص وطنه أهم لديه من مصلحته الخاصة.
ثالثاً: حب الوطن: وهذا الحب كما ذكرنا حب غريزي ولكنه يختلف من شخص إلى آخر، فكم من الناس من يتشدقون بحبهم لوطنهم وهم عالة عليه، وآلة هدم في بنائه، وهذا هو الحب الزائف.
أما الحب الصادق للوطن فإنما يظهر فيما يقوم به المواطن من بذل وعطاء، وجهد وبناء في سبيل إعلاء مكانة وطنه بين الأمم، فهو يحبه ويتعلق به، ويكون ذلك باحترام الأنظمة الموضوعة لحفظ أمنه، ونشر العدل بين ربوعه، ويبذل قصارى جهده في سبيل إعزازه ونصرته ورفع شأنه وحفظ مقدراته، ونشر إيجابياته، وستر عيوبه، والعمل على حفظ أمنه من كل من يريد به الشر والأذى.
الفرق بين المواطنة والأخوة:
المواطنة يطلق عليها الحب الفطري الغريزي للوطن، نتيجة الألفة والمعيشة فيه، وذكريات الصبا ومآرب الشباب، وهو كما ذكرت سابقاً غريزي يشترك فيه الإنسان والحيوان والطائر على حد سواء مع اختلاف الأسباب، وهذا النوع من حب الوطن يعتبر مواطنة فطرية سرعان ما تذوب وتتغير مع تغير الأحوال والملابسات لأنها قائمة على حدود معينة.
أما الأخوة فهي رباط معنوي ومادي، يربط بين الإنسان بأخيه، أو بإخوانه، وخاصة إذا كان هذا الرباط هو رباط الإيمان والعقيدة، فلا يؤثر نفسه على أحد من إخوانه، أو يقدم مصلحته على مصلحتهم، بل يكون كاليد الواحدة، والجسد الواحد.
والأخوة من أعظم الروابط وأقواها وقد حث عليها دين الإسلام في كثير من توجيهاته، فبهذا الرابط يزيد عامل الإيثار، وينتشر بالتناصح، ويقوى بسببه باب التعاون على البر والخير والتقوى.
وقد ذكر القرآن الكريم في آيات عديدة فضل الأخوة، وأن المسلمين كلهم إخوة تحت رباط العقيدة، قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..}([9])، وقال تعالى {.. فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً..}.وقال صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)
ومن المسلم به أن الإسلام هو أول الشرائع التي حثت على الوحدة بين الناس كافة، فلم تفرق بين أحد إطلاقاً إلا في التقوى، ولكنها شريعة جاءت بالعدل والحق والمساواة في الحقوق بين البشر كافة، قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
إن لفظة المواطنة ليس لها وجود في اللغة العربية أو الأدبيات الإسلامية، ولكن لها مفهوم عام، لذا وهناك فرق بين المفهوم والاصطلاح، فالمفهوم يحاكي الفكرة، والمصطلح يحاكي اللفظ الذي يعبر عن هذه الفكرة.
فعند تناول مسمى المواطنة نتناولها من حيث المفهوم، وننزل هذا المفهوم ونسقطه على النصوص الشرعية في الإسلام، أو غيره من أدبياته.
والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعني: علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق متبادلة في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات.
وأما التعريف الإسلامي للمواطنة: فهو ينطلق من خلال القواعد والأسس التي تبنى عليها الرؤية الإسلامية لعنصري المواطنة، وهما الوطن والمواطن، وبالتالي فإن الشريعة الإسلامية ترى أن المواطنة هي تعبير عن الصلة التي تربط بين المسلم كفرد وعناصر الأمة، وهم الأفراد المسلمون والحاكم والإمام، وتتوج هذه الصلاة جميعا الصلة التي تجمع بين المسلمين وحكامهم من جهة وبين الأرض التي يقيمون عليها من جهة أخرى، وبمعنى آخر فإن المواطنة هي تعبير عن طبيعة وجوهر الصلاة القائمة بين دار الإسلام وهي (وطن الإسلام) وبين من يقيمون على هذا الوطن أو هذه الدار من المسلمين وغيرهم.
أجل: إن المواطنة انتماء وموالاة لعقيدة، وقيم ومبادئ انتماء تغمره أحاسيس العزة ويكلله الفخر، وموالاة تعكسها سمات التضحية وتترجمها معاني الإيثار.
مصطلحات أخرى حول المواطنة:
إن المواطنة لها ارتباطات ببعض المصطلحات الأخرى والتي قد تعبر عنها، أو تكون قريبة من مفهومها، أو هي جزء من محتواها، ومن ذلك:
أولاً: الانتماء: فهو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس وإخلاص للارتقاء بوطنه ورفع شأنه والدفاع عنه ممن يريدون إضعافه أو إفساده أو إخراجه عن الخير الذي يعيش فيه.
مفهوم الانتماء: يعد مفهوم الانتماء الوطني من المفاهيم العالمية، والمهمة في عالمنا المعاصر والذي أصبح من المفاهيم المتكررة في سائر وسائل الإعلام سواء المرئية أو السمعية، بل أصبح مفهوماً رئيساً في حياتنا العامة.
وقد عرف هذا المفهوم لغة: بأن معناه الانتساب، فانتماء الولد إلى أبيه انتسابه إليه واعتزازه به، والانتماء مأخوذ من النمو والزيادة والكثرة والارتفاع فالشجر ينمو وكذلك الإنسان.
كما عرف البعض الانتماء اصطلاحاً: بأنه الانتساب الحقيقي للدين الإسلامي والوطن فكراً ومشاعر ووجداناً، واعتزاز الفرد بالانتماء إلى دينه من خلال الالتزام بتعاليمه، والثبات على منهجه، وتفاعله مع احتياجات وطنه، ويظهر ذلك من خلال بروز محبة الفرد لوطنه والاعتزاز بالانضمام إليه
والتضحية من أجله.
والانتماء الحقيقي يشتمل على قيم عالية سامية، تتمثل في محبة الفرد لمجتمعه، وحرصه عليه وتفاعله مع جميع أفراده وخاصة عندما يكون هذا الوطن وطناً إسلامياً بمعنى الكلمة.
ثانياً: القومية: وهي مشتقة في اللغة العربية من (قوم)، والقوم جماعة من الرجال والنساء جميعاً، وقوم كل رجل عشيرته.
والقومية حالة عقلية، ونمط للرغبات والاهتمامات، وتشير القومية إلى مرحلة تاريخية وصلت من خلالها شعوب وأمم إلى تكوين وحدات سياسية معينة وتبوأت مكانها تحت الشمس.
والقومية روح ومبدأ روحي، أي أنها تعني التضامن الحق الذي تخلقه عاطفة المستقبل، وتعترض القومية ماضينا، ولكنا نثبت وجودها في الحاضر بحقيقة ملموسة هي الرضا، والمقصود بالرضا هو رغبة مجموعة بشرية معينة رغبة أكيدة وواضحة في العيش معاً وفي الاستمرار في ذلك مستقبلاً.
إن جوهر القومية شعور نفسي، إذ هي حالة عقلية وطريقة للحياة، ومعنى ذلك أنها اعتقاد لدى الأفراد بأنهم يرتبطون بجماعة واحدة تشترك في مواريثها الاجتماعية، وتقاليدها وأسلوب حياتها.
فالإنسان يحب أمته تحت تأثير النزعة القومية، ويشعر بارتباط قلبي نحوها، ويؤيد أمجادها ويفتخر بها، ويتألم بمصابها، كما أن الإنسان يحب وطنه تحت تأثير النزعة الوطنية فيفجع لنكبته ويسعى لخدمته، ولا يتأخر عن التضحية في سبيله.
إن الوطنية قائمة يعيشها الإنسان العربي، وهي واقع طبيعي لا يهدد القومية العربية، ما دامت ليست هدفاً بذاتها، بل بعداً من أبعادها، أما إذا صارت هدفاً بذاتها فتعتبر إقليمية وليست وطنية، والأمة العربية والأسس التي تقوم عليها قوميتها لا تسمح بذلك فلا خطر على القومية من الدعوة إلى الوطنية. فالقومية في وقتنا الحالي تقوم على عدة عوامل، ومن ذلك: العامل التاريخي، واللغوي، والاجتماعي، والجغرافي، والاقتصادي، والسياسي، والديني العقائدي، والوطني، فكل ذلك يزيد من ارتباط القوم معاً، وخاصة إذا ارتبطت الأمة بالعامل الديني العقدي.
ولكن هذه القومية تضعف ولا يكون لها قوة ولا تمساك ما دامت ترتبط بغير رباط الدين، فكل أمة تقوم على هذه القومية ولا يكون لها عقيدة صحيحة قوية فهي أقرب إلى الزوال.
وهذه القومية قريبة من الوطنية، ولكن تختلف معها في بعض الجزئيات الأخرى، والتي تختلف باختلاف القائلين بها والمطبقين لها في حياتهم.
ثالثاً: الأُمَّة:
والأُمَّةُ لغة: السُّنَّةُ في الدِّين، من قوله عز وجل:{إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنا على أُمَّةٍ}، وكل قوم نسبوا إلى نبي فهم: أمته.وكل جيل من الناس: أمة على حدة. وهي من الجماعات: ما بين الأربعين إلى المائة.
واصطلاحاً: هي الجماعة البشرية المتماسكة وفق نظاميها الاجتماعي والثقافي. وللأمة روح واحدة تتجلى في وحدة عناصر مثل: اللغة، والعرق، والدين، والعادات، والتقاليد([7](.
وهذا التعريف ينطبق على الأمة العربية التي محور اتحادها اللغة في حين أن الأمة الإسلامية محور اتحادها هو الدين الإسلامي العظيم بفحواه الظاهر والباطن.
والأمة معناها قريب من الوطنية إلا أنها تختلف باختلاف الدولة أو الدول التي يعيش فيها الناس، فكل أمة تختص بشيء ربما يكون مغايراً لغيرها من الأمم كاللغة، أو اللون، أو الأرض، أو الدين، أو غير ذلك؛ فهي ترتبط ببعضها البعض حسب ما ذكرناه سابقاً.
رابعاً: الشَّعْب:
الشعب يطلق عليه: أمة ما إنما تنحدر بصفة عامة من أجناس وأصول عرقية مختلفة اختلطت مع بعضها البعض بفضل التكتلات البشرية والغزوات والحروب، وتحكم الشعب تجربة تاريخية مشتركة، ويربط بين أفراد الشعب الأصل والتاريخ، واللغة والأرض.
والشعب مجموعة من الأفراد تتميز عن باقي المجتمع بميزة أو أكثر مشتركة بينهم كالإقامة في منطقة معينة أو الجنس، أو المهنة أو العقيدة السياسية.
وقد يراد بالشعب العامة من الناس كأبناء الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين وغيرهم بخلاف الطبقات العليا.
والشعب لا غنى له عن الوطنية ما دام أنه متمسك برباط الحق والعدل، ويقوم على ذلك الطريق الذي يوصل إلى التماسك والترابط والتجانس بين أفراد الشعب.
خامساً: الجنسية:
الجنسية عبارة عن علاقة بين فرد ودولة، وبناء على هذه العلاقة تمنحه هذه الدولة جنسيتها بناء على ولاءه لها، والذي يستخدم كمصطلح عام للإشارة إلى مجموعة التزامات يلتزم بها هذا الفرد تجاه الدولة التي ينتمي إليها.
وهي تشير أيضاً إلى وضع الأفراد من وجهة نظر القانون الدولي بمعنى كل فرد له رابطة بدول معينة ينتمي إليها وتمنحه جنسيتها بغض النظر عن ماهية الحقوق والواجبات التي تعتمد على دستور وقوانين الدولة، ومن ثم ليس بالضروري أن تحوي الجنسية حق ممارسة الحقوق والوظائف المدنية والسياسية، وبالتالي يكون للجنسية معنى أوسع من المواطنة التي قد تستخدم أحياناً كبديل لها.
والجنسية أيضاً تكتسب السمة الدولية، بينما ترتكز المواطنة على الإطار الوطني، فهي تميز بين الداخل والخارج، تعبر فيه المواطنة عن العلاقة القانونية بين الفرد والجماعة السياسية التي ينتمي إليها وتتحول إلى علاقة بين دولتين أو أكثر، بمناسبة الوضع القانوني للفرد من ناحية ثانية.
المواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية:
إن من المغالطات التي يبثها أعداء الإسلام الإيهام بوجود التعارض بين الوطنية بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام كشريعة متكاملة، وما هذا إلا حيلة للنيل من الإسلام والقدح فيه، وهو استغلال للمحبة الغريزية للوطن، لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعضاً من مصالح الوطن، وذلك باتخاذ بعض أحكام الشريعة التي تصادم مطالب الوطنية حجة لهم في النيل من عظمة الإسلام وقوته واستحقاقه.
إن العقيدة الإسلامية هي أساس وطنية المسلمين، ولذلك فحدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى ثانياً، ومن ثم يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة، وشعور الوطنية العامة؛ لأن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص فيها: أن يعمل كل إنسان الخير لبلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم القليل والكثير من أجل رفعة شأنه وتقدمه.
إن المسلم يكون ولاؤه أولاً وآخراً لله تعالى ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ويتمثل ذلك بعبوديته لربه، وإخلاصه له في كل عمل يقوم به، واتباع شرعه.
ثم ينتقل بعد ذلك ولاؤه إلى إخوانه من المسلمين، وذلك بالتعاون معهم في اتباع المنهج الحق، والقيام به، والتناصح من أجله، والعمل على نشره، ورفع قدره بين الناس.
فرابط الولاء يمثل الأمة الإسلامية جمعاء، لا لكونهم في مجتمع واحد، أو أنهم ينحدرون من عرق واحد، أو من أجل اشتراكهم في لغة واحدة، إنما يجمعهم رب واحد، ودين واحد، ونبي واحد.
إن المواطنة من مفهومها السابق والمستمد من الشريعة الإسلامية الغراء لا يتعارض مع الانتماء إلى الأمة الإسلامية، ولكنها تتعارض مع الوطنية التي تكون سبباً في تنازع الأمة وتقسيمها إلى طوائف متناحرة وأحزاب مختلفة، والتي تركن إلى شرائع وضعية شكلتها الغايات المادية، وفسرتها الأفهام القاصرة وفق المصالح والأهواء.
إن الوطنية التي يتمسك بها كل مسلم تلك الوطنية التي تأخذ حظها من الشريعة الغراء، والتي تهدف إلى تقوية الرابطة بين أبناء البلد الواحد على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ودياناتهم، واستخدام تلك الرابطة في تقوية المصالح المشتركة التي تعود على الوطن بالخير والنماء والأمن والأمان.
والمواطنة في الإسلام تستوعب جميع المواطنين في دياره، دون إهدار حقوق الأقليات غير المسلمة، أو المسلمة، من غير إثارة للنعرات القومية والتي تتعدد بصورها المختلفة.
وهي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم المتمثلة بحقوق الإنسان لقيامها على قاعدة التسامح، فهي تحترم الواقع وليست مجرد شعارات، وهي أداء بناء واستقرار، لا وسيلة تهديم وتفريق وزرع مشكلات كما هو شائع في بلاد الغرب، إنها مفهوم يعتمد على أساس الحرية والمساواة.
وقد ظهر ذلك جلياً حينما أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد المواطنة بين المسلمين واليهود وغيرهم ممن لم يدخل في الإسلام، والتي أطلق عليها (صحيفة المدينة)([8])، وهي التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة.
وقد تضمنت تلك الصحيفة قضايا المواطنة وحقوق المواطنين ووجباتهم، مع الاتفاق على إنشاء تحالف عسكري بين جميع طوائف المدينة ضد الأعداء، ومنع أي تعاون مع المشركين ضد المسلمين، والتي سوف نتكلم عنها بالتفصيل
عناصر المواطنة:
المواطنة تقوم على عناصر محددة لا تخرج عنها إلى غيرها، ومن تلك العناصر:
أولاً: الوطن: وهو في اللغة العربية محل الإنسان، فهو السكن، وهو المنزل، أو البيت الذي يقيم فيه، ولم تذكر معاجم العربية سوى الأصل لهذا اللفظ إلا هذا المعنى.
وقد عرف بعض العلماء الوطن لغة: بأنه الأرض التي ينشأ عليها الإنسان ويتخذها مقراً له.
وعلى ذلك فإن الأرض التي ينشأ عليها جماعة ما ويتخذونها مستقراً ومقاماً لهم تعتبر وطناً لتلك الجماعة، والوطن عند أهل السياسة هو مكانك الذي تنسب إليه، ويحفظ حقك فيه، ويعلم حقه عليك، مؤمن فيه على نفسك وأهلك ومالك.
ولهذه الكلمة معان اصطلاحية عديدة، منها:
1ـ الوطن الأصلي: وهو مكان مولد الإنسان، ونشأته.
2ـ وطن الإقامة: ويسمى بوطن السفر، وهو الوطن (المستعار) الحادث، وهو ما خرج إليه المرء بغية الإقامة فيه لمدة محددة من غير أن يتخذه مسكناً.
فالوطن إذن هو:(البلد الذي ولد فيه المرء، أو البلد الذي ينسب إليه المرء من حيث جنسيته أو تبعيته).
وهو المكان الذي يولد فيه الإنسان، ويقيم فيه، وينشأ ويترعرع بين أحضانه، ويرتبط فيه بالناس.
ثانياً: المواطن: وهو فرد من الأفراد ينتمي إلى وطن ما، ويكون هذا المواطن صالحاًَ في نفسه، صالحاً في مجتمعه، باذلاً لجهده في خدمة وطنه، وتقديم كل الامكانيات المتاحة من أجل حفظ كيانه، ورفعة شأنه، والذود عن حياضه.
فارتباط المواطن بوطنه يكون ارتباطاً نابعاً من الفطرة، والألفة، والانتماء الصادق لهذا الوطن، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى وطن أو دولة معينة، ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل لصالح لهذا الوطن، وتصبح المصلحة العامة التي تخص وطنه أهم لديه من مصلحته الخاصة.
ثالثاً: حب الوطن: وهذا الحب كما ذكرنا حب غريزي ولكنه يختلف من شخص إلى آخر، فكم من الناس من يتشدقون بحبهم لوطنهم وهم عالة عليه، وآلة هدم في بنائه، وهذا هو الحب الزائف.
أما الحب الصادق للوطن فإنما يظهر فيما يقوم به المواطن من بذل وعطاء، وجهد وبناء في سبيل إعلاء مكانة وطنه بين الأمم، فهو يحبه ويتعلق به، ويكون ذلك باحترام الأنظمة الموضوعة لحفظ أمنه، ونشر العدل بين ربوعه، ويبذل قصارى جهده في سبيل إعزازه ونصرته ورفع شأنه وحفظ مقدراته، ونشر إيجابياته، وستر عيوبه، والعمل على حفظ أمنه من كل من يريد به الشر والأذى.
الفرق بين المواطنة والأخوة:
المواطنة يطلق عليها الحب الفطري الغريزي للوطن، نتيجة الألفة والمعيشة فيه، وذكريات الصبا ومآرب الشباب، وهو كما ذكرت سابقاً غريزي يشترك فيه الإنسان والحيوان والطائر على حد سواء مع اختلاف الأسباب، وهذا النوع من حب الوطن يعتبر مواطنة فطرية سرعان ما تذوب وتتغير مع تغير الأحوال والملابسات لأنها قائمة على حدود معينة.
أما الأخوة فهي رباط معنوي ومادي، يربط بين الإنسان بأخيه، أو بإخوانه، وخاصة إذا كان هذا الرباط هو رباط الإيمان والعقيدة، فلا يؤثر نفسه على أحد من إخوانه، أو يقدم مصلحته على مصلحتهم، بل يكون كاليد الواحدة، والجسد الواحد.
والأخوة من أعظم الروابط وأقواها وقد حث عليها دين الإسلام في كثير من توجيهاته، فبهذا الرابط يزيد عامل الإيثار، وينتشر بالتناصح، ويقوى بسببه باب التعاون على البر والخير والتقوى.
وقد ذكر القرآن الكريم في آيات عديدة فضل الأخوة، وأن المسلمين كلهم إخوة تحت رباط العقيدة، قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..}([9])، وقال تعالى {.. فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً..}.وقال صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)
وأروع مثال على تلك الأخوة العظيمة مؤاخاة النبي
صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكيف تلاحمت هذه الأمة فأصبحت لحمة
واحدة مع اختلاف القبيلة والوطن والحال، ولكن جمعهم الإيمان والعقيدة، ومحبة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وجمعتهم الهجرة إلى الله ورسوله، ونصرة دين الله عز وجل،
فلما كان الهدف والغاية وجه الله عز وجل اجتمعوا على ذلك فكانت هذه الأُخوة
العميقة العظيمة الأثر والتي ما زال. فالفرق بين الوطنية والأخوة فرق كبير،
فالوطنية مرتبطة بحدود، وسياج، وجنسية، ولغة.
أما الأخوة فهي أعظم من ذلك، لأنها ترتبط بالعقيدة فقط، فجميع المسلمين إخوة في الله، لأنهم أبناء عقيدة واحدة، لا يخرج عنهم إلا من سلك طريقاً غير طريقهم.
مفهوم المواطنة لدى المسلمين:
البلاد التي تسودها شريعة الإسلام، وتطبق أحكامه هي وطن مسلم واحد حتى لو اختلفت اللغات والجنسيات، والإسلام وضع منهجاً واضحاً للدفاع عن الوجود الوطني بالبدء بأهل الدار أو بالوطن الصغير، ثم الانتقال إلى الجوار، ثم الأقرب فالأقرب حتى يعم جميع بلدان وأقطار العالم الإسلامي كله.
كما أن الميل للوطن بالمعنى الإقليمي الضيق لا يمنع من الميل للأمة المتحدة في أفكارها وعقيدتها، فالمواطنون في الوطن الضيق شركاء في المغنم والمغرم، وهي بداية الدائرة للوطن الكبير، ثم تتسع الدائرة من أجل تحقيق وحدة المسلمين وقوتهم، وصون عزتهم وكرامتهم، لتشمل سائر الأمة الإسلامية جميعها.
إن الأمة الإسلامية القائمة
على بنية المجتمع المتعدد المذاهب والأعراق والغايات في أي قطر إسلامي تؤمن بعقيدة واحدة، وتظللها شريعة واحدة، وتربطها أخوة واحدة، كما قال تعالى {إنما المؤمنون إخوة}
أما الأخوة فهي أعظم من ذلك، لأنها ترتبط بالعقيدة فقط، فجميع المسلمين إخوة في الله، لأنهم أبناء عقيدة واحدة، لا يخرج عنهم إلا من سلك طريقاً غير طريقهم.
مفهوم المواطنة لدى المسلمين:
البلاد التي تسودها شريعة الإسلام، وتطبق أحكامه هي وطن مسلم واحد حتى لو اختلفت اللغات والجنسيات، والإسلام وضع منهجاً واضحاً للدفاع عن الوجود الوطني بالبدء بأهل الدار أو بالوطن الصغير، ثم الانتقال إلى الجوار، ثم الأقرب فالأقرب حتى يعم جميع بلدان وأقطار العالم الإسلامي كله.
كما أن الميل للوطن بالمعنى الإقليمي الضيق لا يمنع من الميل للأمة المتحدة في أفكارها وعقيدتها، فالمواطنون في الوطن الضيق شركاء في المغنم والمغرم، وهي بداية الدائرة للوطن الكبير، ثم تتسع الدائرة من أجل تحقيق وحدة المسلمين وقوتهم، وصون عزتهم وكرامتهم، لتشمل سائر الأمة الإسلامية جميعها.
إن الأمة الإسلامية القائمة
على بنية المجتمع المتعدد المذاهب والأعراق والغايات في أي قطر إسلامي تؤمن بعقيدة واحدة، وتظللها شريعة واحدة، وتربطها أخوة واحدة، كما قال تعالى {إنما المؤمنون إخوة}
فهي
أمة واحدة خالدة على مدى التاريخ، لا تفرقها المصالح الصغيرة، ولا تفكك رابطتها
الجامعة القضايا الجانبية، فكان المصطلح الإسلامي هو التعبير بالأمة الواحدة، وليس
بالشعب الواحد.
فتكون المواطنة في الإسلام في أصل مفهومها أوسع من الحدود الجغرافية الإقليمية الضيقة للوطن الإسلامي، ويكون كل فرد مسلم أو معاهد مواطناً، لأنه عضو من الأمة الإسلامية، له كل الحقوق وعليه كل الواجبات.
والذي يوضح ما سبق تلك الصحيفة التي أبرهما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة المنورة، والتي جاءت بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة.
وقد بينت تلك الوثيقة أن المجتمع المدني أصبح في بوتقة الأمة الواحدة على الرغم من التنوع العقدي والثقافي، لأن المدينة كانت تحتوي على جنسيات ولغات وثقافات مختلفة، فمنهم المسلمون، واليهود، والوثنيون، والمهاجرون من مكة، وكذا الأنصار.
فكل هؤلاء جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم تحت بنود تلك الصحيفة والتي تحقق عن طريقها مبدأ المواطنة العامة لجميع من يسكن في المدينة.
وقد احتوت تلك الصحيفة. على سبعة وأربعين بنداً أو فقرة، نذكر بعضاً منها كي يتبين لنا قوة تلك الصحيفة وأنها أرست مبدأ عظيماً من مبادئ التعاضد والتعاون.
فكانت تلك الصحيفة كما جاء فيها:
)هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم:
·****** أنهم أمة واحدة من دون الناس.
·****** وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
·****** وأن من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
·****** وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم.
·****** وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
·****** وأن على اليهود نفقتهم، وأن على المسلمين نفقتهم.
·****** وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
ثم ذكر بنوداً أخرى نذكر منها ما يأتي:
·****** وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
·****** وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
·****** وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
·****** وأن النصر للمظلوم.
·****** وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
·****** وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله.
·****** وأنه لا تُجار قريش ولا من نصرها.
·****** وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
إلى آخر تلك البنود المذكورة في تلك الصحيفة.
فقد تضمنت تلك الصحيفة حقوق المواطنين وواجباتهم، مع الاتفاق على إنشاء تحالف عسكري بين جميع طوائف المدينة ضد كل من يعتدي عليها، ومنع أي تعاون مع المشركين ضد المسلمين.
وهذه البنود وغيرها قد أرست مبدأ الوطنية المبنية على العدل والحق والمساواة.
وأن طوائف المدينة كلها تتعاون في تحمل الأعباء سواء الاقتصادية، أو السياسية، أو غيرها مما لا يخالف فيه الدين.
فهذه الصحيفة تمثل المثل الأعلى في شرف المواطنة وتقرير حقوق المواطنين جميعاً على أساس واضح من المساواة وتحمل المسؤوليات.
فتكون المواطنة في الإسلام في أصل مفهومها أوسع من الحدود الجغرافية الإقليمية الضيقة للوطن الإسلامي، ويكون كل فرد مسلم أو معاهد مواطناً، لأنه عضو من الأمة الإسلامية، له كل الحقوق وعليه كل الواجبات.
والذي يوضح ما سبق تلك الصحيفة التي أبرهما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة المنورة، والتي جاءت بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة.
وقد بينت تلك الوثيقة أن المجتمع المدني أصبح في بوتقة الأمة الواحدة على الرغم من التنوع العقدي والثقافي، لأن المدينة كانت تحتوي على جنسيات ولغات وثقافات مختلفة، فمنهم المسلمون، واليهود، والوثنيون، والمهاجرون من مكة، وكذا الأنصار.
فكل هؤلاء جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم تحت بنود تلك الصحيفة والتي تحقق عن طريقها مبدأ المواطنة العامة لجميع من يسكن في المدينة.
وقد احتوت تلك الصحيفة. على سبعة وأربعين بنداً أو فقرة، نذكر بعضاً منها كي يتبين لنا قوة تلك الصحيفة وأنها أرست مبدأ عظيماً من مبادئ التعاضد والتعاون.
فكانت تلك الصحيفة كما جاء فيها:
)هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم:
·****** أنهم أمة واحدة من دون الناس.
·****** وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
·****** وأن من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
·****** وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم.
·****** وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
·****** وأن على اليهود نفقتهم، وأن على المسلمين نفقتهم.
·****** وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
ثم ذكر بنوداً أخرى نذكر منها ما يأتي:
·****** وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
·****** وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
·****** وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
·****** وأن النصر للمظلوم.
·****** وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
·****** وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله.
·****** وأنه لا تُجار قريش ولا من نصرها.
·****** وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
إلى آخر تلك البنود المذكورة في تلك الصحيفة.
فقد تضمنت تلك الصحيفة حقوق المواطنين وواجباتهم، مع الاتفاق على إنشاء تحالف عسكري بين جميع طوائف المدينة ضد كل من يعتدي عليها، ومنع أي تعاون مع المشركين ضد المسلمين.
وهذه البنود وغيرها قد أرست مبدأ الوطنية المبنية على العدل والحق والمساواة.
وأن طوائف المدينة كلها تتعاون في تحمل الأعباء سواء الاقتصادية، أو السياسية، أو غيرها مما لا يخالف فيه الدين.
فهذه الصحيفة تمثل المثل الأعلى في شرف المواطنة وتقرير حقوق المواطنين جميعاً على أساس واضح من المساواة وتحمل المسؤوليات.
مفهوم المواطنة لدى غير المسلمين:
أما المواطنة عند غير المسلمين فهي ترتبط بالجنس، أو باللغة، أو بالأرض، أو بالمصلحة الخاصة لكل شعب.
فهي تختلف اختلافاً كلياً عن المواطنة في الإسلام حتى ولو احتوت على جزئيات منها، لأنها تبنى على مصلحة خاصة ترتبط بأبناء الوطن الواحد دون غيرهم.
فالمواطنة علاقة والتزام له صبغة سياسية وصبغة اجتماعية ونفسية، وهي صفة ينالها الفرد، ليتمتع بالمشاركة في دولة، أو التزامات متبادلة ما بين الأشخاص والدولة، أو التعبير الاجتماعي لعملية انتماء متبادلة بين الأشخاص والدولة، أو التعبير الاجتماعي لعملية انتماء الإنسان، عملية انتماء تتجسد في قضية المواطنة، وينتمي إلى موطن.
ويقال أيضاً عن المواطنة أنها حالة التزام ما بين الفرد والدولة، فالفرد ملتزم أمام الدولة، والدولة ملتزمة أمام الفرد، فللمواطن حقوق وواجبات، وللدولة حقوق.
وهذه المواطنة تختلف في محتواها عن المواطنة في الإسلام، لأن الأولى تبنى على احترام سيادة القانون، والعمل بمقتضاه، أما في الإسلام فهي حقوق وواجبات تقوم على أوامر الشرع الحنيف، لا يراد منها إلا إقامة الحق والعدل بين الناس على اختلاف الألوان والأجناس.
**المبحث الأول:* الوطنية في ضوء تعاليم الإسلام، ويشتمل على خمسة مطالب:
تعريف الوطن:
الوَطَنُ لغة: المَنْزِلُ تقيم به، وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله.
والجمع: أَوْطان، ... وأَوْطَنَهُ اتخذه وَطَناً، يقال أَوْطَنَ فلانٌ أَرض كذا وكذا أَي اتخذها محلاً ومُسْكَناً يقيم فيها... والمَوْطِنُ المَشْهَدُ من مَشَاهد الحرب وفي التنزيل العزيز {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ..} ، ... أَما المَوَاطِنُ فكل مَقام قام به الإنسان لأَمر فهو مَوْطِنٌ له.
وفي الاصطلاح: الوطن الأصلي هو مولد الرجل، والبلد الذي هو فيه.
وعلى ذلك فالوطن هو المكان الذي يقيم فيه الإنسان ويتخذه مستقراً.
وعرف أيضاً بأنه الأرض التي ينشأ عليها الإنسان ويتخذها مقراً له، وعلى ذلك فإن الأرض التي تنشأ عليها جماعة ما وتتخذها مستقراً ومقاماً لها تعتبر وطناً لتلك الجماعة، والوطن عند أهل السياسة هو مكانك الذي تنسب إليه، ويحفظ حقك فيه، ويعلم حقه عليك، مؤمن فيه على نفسك وأهلك ومالك.
ولكلمة الوطن معان اصطلاحية كثيرة، منها:
·****** الوطن الأصلي: وهو مكان مولد الإنسان ونشأته.
·****** وطن الإقامة: ويسمى أيضاً بوطن السفر، وهو الوطن المستعار، وهو ما خرج المرء إليه بغية الإقامة فيه لمدة محددة من غير أن يتخذه مسكناً.
الكيان الوطني ودعائمه:
إن الكيان الوطني يختلف من دولة إلى دولة، ومن بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، فهو يختلف باختلاف ما يقوم عليه من الأنظمة والقوانين سواء كانت إسلامية أو غيرها من النظم الأخرى.
ففي بلاد المسلمين، وخاصة في البلاد التي تطبق فيها الشريعة الإسلامية فالكيان الوطني فيها يقوم على دعامتين قويتين، وهما: أولاً: الدعامة الدينية، والثانية: الدعامة الإرادية:
فأما الدعامة الدينية: وهي التي تبنى على أسس متينة من العدل والحق، والحكم بما أنزل الله، والأريحية العربية، وتطهير البلاد من الفساد والخرافات والبدع والمنكرات، فهي التي تبني وطناً قوياً متيناً مترابطاً بجميع أفراده، ويعمل الجميع فيه للمصلحة العامة وليست الخاصة.
وأما الدعامة الإرادية: وهي التي تقوم على توطيد أركان الدولة واستقلالها، والدفاع عنها، والعمل على أقامة العدل في ربوعها، وتوزيع الحقوق والمسؤوليات على جميع أبناءها.
فكانت هاتان الدعامتان من أهم ما يقوي الكيان الوطني ما دام أنه قائماً على الحق والعدل والإنصاف والمساواة، والتسامح بين أفراد الرعية، وتحمل المسؤولية في صد العدوان عن هذا الكيان، والعمل على رفع شأنه بين سائر الدول والأوطان.
حدود الوطنية:
إن في كل دولة من الدول، أو بلد من البلدان، أو قارة من القارات حدوداً جغرافية تاريخية، وهي تقوم على الارتباط بالأرض التي يسكن عليها الناس، ويعيشون فيها، وترتبط أيضاً باللغة واللون، وهذه الحدود تختلف باختلاف المكان، فكل قوم من الناس اتخذوا مكاناً يعيشون فيه كان لهم حدود متعارف عليها مع غيرهم، وهذه واضحة بالنسبة لمن ينظر إلى حال العالم اليوم من التقسيم الجغرافي والتاريخي.
فكل بلد يعيش فيها أناس يترابطون برباط الأرض واللغة، فيقومون بعمل كل ما يعود عليهم بالفائدة، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
ولكن في الوطن المسلم لا ينظر إلى هذه الأمور بقدر ما ينظر إلى ترابط الوطن الواحد بالدين، فالدين هو الذي يجمع الناس، ويأخذ بهم إلى بذل الجهد في سبيل إعلاء هذا الوطن بين غيره من الأوطان.
وجميع المسلمين في سائر البلدان هم يعيشون في أوطان متفرقة ولكنهم مرتبطون برباط الدين، فولائهم لدينهم، ومعاداتهم لمن يخالف دينهم.
المطلب الرابع: مفهوم الوطنية في الإسلام لا يتعارض مع الانتماء إلى أمة الإسلام:
إن من المغالطات التي يلقيها بعض الناس سواء من المسلمين أو غيرهم هو وجود تعارض بين الوطنية بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام، وتصوير هذا التعارض هو من الحيل للنيل من حقيقة الإسلام ومكانته في قلوب المسلمين، وهو استغلال للمحبة الغريزية للوطن لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعض مصالح الوطن، وذلك عبر مصادمة بعض أحكام لمطالب الوطنية.
إن الوطنية التي يدعو إليها علماء المسلمين ومفكروهم وغيرهم من سائر طبقات الأمة هي الوطنية المرتبطة بالدين، المتعلقة بالعقيدة، المستقاة من شريعة رب العالمين، والتي تهدف إلى تقوية أواصر مواطني البلد الواحد والأمة الواحدة، ليعمل الجميع في مصلحة وطنهم وأمتهم.
وهذه الوطنية لا تتعارض بمفهومها مع الانتماء لأمة الإسلام، إنما هي فرع من الأمة لأنها تنمي حب الأوطان، وألفتها، والحنين إليها، والانعطاف نحوها، والعمل الجاد الذي يعود بالنفع لها، وهذا بدوره يعود على الأمة جمعاء بالتعاضد والتكاتف والتماسك والنصرة.
إن الوطنية التي تتعارض مع الانتماء لأمة الإسلام هي تلك الوطنية التي تسعى إلى تقسيمها وإضعافها، وبث الخلافات بينها، وإيقاد نار العصبيات والفرق والمذاهب والحزبيات والولاءات، وهذه الوطنية لا يمكن أن يعترف بها أحد أبداً، بل هي مبغوضة لدى كل مسلم غيور على دينه، بل هي مبغوضة لدى كل مواطن حتى من غير المسلمين.
إن الوطنية التي نرجوها هي وطنية مرتبطة أولاً وآخراً بديننا الحنيف، وهي التي تقوم على ما أمر الله به تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الوطنية هي التي تستوعب جميع المواطنين في ديار الإسلام، دون إهدار حقوق الأقليات غير المسلمة، أو المسلمة، من غير إثارة للنعرات القومية المتنوعة.
وهذه الوطنية أيضاً هي التي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم لقيامها على قاعدة التسامح والعدل والإخاء، فهي التي تحترم الواقع، وهي التي تكون أداة بناء واستقرار، لا وسيلة هدم وتفريق، كما هي في غالب الدول التي تطبقها دون إتباع لتعاليم الإسلام الحنيف.
فلابد لنا من العناية بفكرة المواطنة بالمفهوم الإسلامي الشرعي لتجاوز المشكلات، والقضاء على التعددات الدينية، والتحزبات العرقية المتنوعة.
علامات حب الوطن من واقع تعاليم الإسلام:
إن كل إنسان في هذا الكون يقول إنه يحب وطنه، ولكن القليل منهم من يصدق في ذلك. فمحبة الوطن ليست أقوالاً تقال، أو شعارات ترفع، إنما هي أفعال تظهر من المواطن المحب لوطنه، وكل إنسان يتمنى الخير لوطنه ما دام أنه يعيش على ثراه، ويأكل من خيراته، ويتنعم في رخائه وعطائه، ولكن ذلك يختلف باختلاف ما يعيشه الإنسان من أحوال وظروف وملابسات بحسب كل دولة.
فبقدر ما يجده الإنسان من العدل والإنصاف والتعاون وإحقاق الحق ليعيش ظروفاً حياتيه مستقرة بقدر ما يكون حبه لوطنه أقوى وأمتن، ويكون ذلك دافعاً له للعمل لمصلحة وطنه. إن المواطنة الصحيحة للإنسان هي التي ترتبط بصدق محبته لوطنه، وتكون تلك العاطفة، وتلك الرابطة الروحية عاملاً قوياً في أن يؤدي الواجبات التي عليه بطيب نفس، وأن يبذل طاقته وجهده في سبيل رفعة هذا الوطن.
إن جوهر الوطنية الصادقة هو أن يكون المسلم على عقيدة صحيحة سليمة من الشوائب، وأن يؤدي الحق الذي عليه لوطنه، وأن يطيع أولياء أموره في المعروف، مع عدم الخروج عن جماعة المسلمين.
محبة الوطن مرتبطة بمحبته لربه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا وقد قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) إن محبة الوطن لا تكون بالشعارات البراقة الخاوية عن العمل الهادف، ولا ببث الفوضى والفساد، ولا في إزعاج المسلمين وغيرهم ممن يتعايشون معهم، ولا في سرقة خيرات ومقدرات الوطن، أو في تضييع حقوق الناس، إنما المحبة الصادقة تكون بخلاف ذلك، بل هي المحبة التي تقود صاحبها إلى فعل كل خير يعود على وطنه، والابتعاد عن كل شر يؤثر على مسيرة وطنه ورفعة مكانته وشأنه.
ومن العلامات الصادقة على حب الوطن:
·****** أن يقوم المسلم بإصلاح نفسه وأهله ومن حوله، ولا يكون عامل إفساد وهدم في المجتمع، لأن صلاح الأفراد طريق إلى صلاح المجتمع، وصلاح المجتمع طريق إلى صلاح الوطن، وهذا كله يعود على وطنه وأمته بالخير.
·****** أن يحترم مشاعر الناس، بأن يوقر كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويعطف على فقيرهم، وأن يواسي ضعيفهم، وأن يعرف حق جاره، ويحسن معاملة من حوله من أهله، وإخوانه، وزملائه، وعامة الناس.
·****** أن يحترم النظام الذي وضع من أجل مصلحة الناس ويكون حفظاً لهم من الفوضى، وأن يطبق ما يؤمر به إلا إذا كان فيه معصية لله، فلا يقطع إشارة، ولا يخون الأمانة، ولا يقصر في عمله.
·****** أن يطيع ولي أمره في كل ما يصدره من أنظمة لا تخالف الشرع الحنيف، بل هي تعود بالنفع والخير على الوطن والمواطنين.
·****** أن يقوم بمسؤلياته تجاه وطنه، بأداء واجباته، وحفظ مقدراته.
·****** أن يكون أول من يدافع عن وطنه لمن يريد به الشر والفساد والفتنة، وأن يكون من الجنود الذين يحفظون أمنه وسياجه من اعتداء المعتدين، أو إفساد المفسدين، وأن يتعاون على ذلك مع أبناء وطنه.
·****** أن يكون عامل بناء في المجتمع، وأن يحرص على كل ما ينفع وطنه.
·****** أن يبذل جهده في إعلاء شأن وطنه بين الدول الأخرى، وأن يكون قدوة حسنة لغيره. هذه بعض من علامات المحبة الصادقة للوطن، وهناك الكثير ولكن لا يتسع المقام لذكرها، أما غير ذلك فتعتبر دعوى باطلة ليس لها مكان بين أبناء الوطن الواحد إلا من اتصف بغير ذلك منهم، وقليل ما هم.
أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد والمجتمع والأمة،
ويشتمل على خمسة مطالب:
المطلب الأول:* أهمية المواطنة الصالحة وضرورتها في بناء الأمة:
إن المواطنة المتعارف عليها لدى كثير من الناس على مستوى دول العالم لها صورٌ متعددة، وأشكالٌ مختلفة، وذلك لما يكون في قلب المواطن من صدق الانتماء وعدمه، وقوة بذله وعطائه لهذا الوطن، وليتسنى لنا معرفة هذه الصور للمواطنة فقد تم تقسيمها إلى الآتي:
أولاً: المواطنة الإيجابية: وهي التي يكون فيها المواطن شاعراً بقوة انتمائه لوطنه، وقيامه بدور إيجابي في خدمته.
ثانياً: المواطنة السلبية: وهي التي يشعر فيها المواطن بانتمائه لوطنه، ولكنه يكون سلبياً في تعامله مع حقوق وطنه، فلا يقوم بالدور الإيجابي الذي ينفع به نفسه ومجتمعه ووطنه.
ثالثاً: المواطنة الزائفة: وهي التي يكون فيها المواطن منتمياً إلى هذا الوطن، ولكنه يحمل في جوفه شعارات جوفاء جرداء عن العمل الإيجابي، فهو يخالف واقعة الحقيقي بعد الإحساس بإعزاز وطنه.
رابعاً: المواطنة المطلقة: وهي التي يجمع المواطن فيها بين دوره الإيجابي والسلبي تجاه مجتمعه ووطنه وفق الظروف والملابسات التي يعيشها بين أبناء وطنه.
إن الغالب من التربيات المعاصرة التي تقوم بها ديانات أخرى غير الإسلام لا تنشأ أبداً المواطنة الإنسانية الصالحة، إنما هي تربية تسعى إلى إيجاد المواطن الصالح لا المواطن الإنسان الصالح.
ويظهر ذلك من خلال مواطنة الإنسان في موطنه الأصلي، فتجد الإنجليزي في الغالب أنه يتعاون مع بني جلدته لتحقيق المواطنة الصالحة، لكنه لا يحققها مع غيره إذا تعارضت مصالحهم مع مصالحه.
وهكذا غالب جنسيات الدول من حولنا، فمقام كل مواطنة لدى المواطن هو احترام قوانين وأنظمة البلد الذي يعيش فيه المواطن، وأن يقدم كل جهده من أجل خدمة وطنه، ولكن إذا تداخلت مصلحة أحد من غير أبناء وطنه مع مصلحته قدم الأخرى لأنها مواطنة ذاتية فقط ترتبط بحدود ولغات وألوان.
ولو نظرنا إلى هؤلاء المستعمرين الذين استولوا على بلاد غير بلادهم كانوا لا يختلطون بمستعمريهم، إنما كانوا يرون أنفسهم أعلى مقاماً وأجل شأنا منهم.
أما التربية الإسلامية في ديننا الحنيف فهي التي تنشأ الإنسان الصالح والمواطن الصالح، وهذا المواطن هو الذي يراقب الله تعالى في جميع علاقاته سواء مع إخوانه المسلمين أو غيرهم من غير المسلمين.
فيكون الجانب السلوكي الظاهر للمواطنة الصالحة والمتمثل في الممارسات الحيَّة التي تعكس حقوق الفرد وواجباته تجاه مجتمعه ووطنه، والتزامه بمبادىء المجتمع وقيمه وأنظمته، والمشاركة الفعالة في الأنشطة والأعمال التي تهدف إلى رقي الوطن والمحافظة على مكتسباته وخيراته.
وهذا بدوره يعود على الأمة بخير عظيم، وعطاء جزيل، كيف لا ومن كانت هذه حاله لابد أن تثمر مواطنته ثماراً يانعة تعود بالنفع على وطنه وأمته جمعاء.
ومن صدق في محبته لوطنه، وقدم تلك المحبة على مصلحته الشخصية عاد ذلك بالإيجاب على أمته.
وكم كنت أرى وأسمع عن هؤلاء الذين قدموا خدمات جليلة وعظيمة لأوطانهم، وخاصة في التخصصات الدقيقة القليلة على مستوى العالم كله، فكم وصل من أبناء أمة الإسلام إلى العالمية بجدارة واستحقاق لما بذل وأعطى، حتى صارت دولته مضرب المثل، وذكراً حسناً لسائر دول العالم.
فقد تخرَّج من أمة الإسلام علماء الشريعة، والطب، والذرة، وغير ذلك من التخصصات.
وفي هذا دليل عظيم على أن المواطنة الصالحة المصلحة من أعظم السبل في نفع الوطن والأمة.
إن المواطنة الصالحة التي نرجوها لكل مواطن هي تلك المواطنة التي ترتبط بالعقيدة والتي تكون عامل بناء لجميع أفراد الأمة، وتكون أيضاً رحيمة بمن سواهم من الديانات والملل الأخرى، وهناك الكثير من الآثار التي دلت على حسن تعامل المسلمين مع غيرهم في تعايشهم والتعامل معهم.
وهذا يدل على عظم شأن الإسلام، ومكانة المسلمين بين سائر الناس عندما طبق المسلمين المواطنة الصالحة التي أمروا بها ليتعايش الناس كما أمر الله جل وعلا.
التمسك بأخلاق الإسلام دليل على المواطنة الصالحة:
إن من ينظر إلى التوجيهات العظيمة للإسلام وتلك الصفات والسجايا العجيبة التي يوجه بها إلى التعامل الصادق، والعدل بين الناس على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم، يدل على أن المسلم إذا تمسك بتلك الأخلاق وقام بتطبيقها في حياته مع من حوله، واتصف بالرفق والتواضع، ورحمة الناس صغيرهم وكبيرهم، وابتعد عن الظلم والعدوان، كان هذا المسلم من خلال حياته العملية يعتبر عاملاً إيجابياً في المجتمع من خلال ما يقدمه لنفسه ولمجتمعه وأمته.
وها هي بعض من النصوص الشرعية الواردة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتي نرى من خلالها تلك الأخلاق العالية، والسجايا الكريمة التي لم توجد في نظام من الأنظمة القديمة أو الحديثة.
ففي كتاب الله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، فالناس عند الله سواسية كأسنان المشط، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وقيامه على الحق والعدل، وأن أكرم الناس عند الله مهما اختلفت ألوانهم في الدنيا والآخرة هو أتقاهم له. وأيضاً في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(، قال الشعبي عن شتير بن شكل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ.
وقال سعيد عن قتادة قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، ليس من خلق حسن, كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به, وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم, إلا نهى الله عنه وقدم فيه).
وقال الشيخ عبد الكريم الخطيب: هذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها. فهي أقرب شيء إلى أن تكون عنوانا للرسالة الإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}. وما في كتاب اللّه كله هو شرح لما أمر اللّه سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي).
وفي آيات أخرى في كتاب الله تعالى يوجه الله جل وعلا إلى التمسك بالعدل، وأن يطبق بين الناس كافة، فلا يقدم أحد على أحد، ولا يستأثر أحد بحكم دون أحد، بل الجميع سواسية كأسنان المشط.
ففي قوله تعالى{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...} ، وقوله {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..}.
ولو نظرنا إلى العدل الإلهي حتى مع أعداء الملة من غير المسلمين، فهو يأمر سبحانه بإقامة مجتمع إنساني واحد، يعيش الجميع تحت ظله ولا يكون فيه إكراه لأحد، بل هناك حرية لغير المسلم في إقامة دينه في حدود التوجيهات في الدولة المسلمة التي يعيش فيها، ففي ظل هذا الوطن الذي يجمع المسلم وغير المسلم فإن غير المسلم له حق التملك، وله أن يستجير فيجار، وله أن يتحاكم إلى القضاء المسلم لتحصيل حقوقه، وله حق التعامل مع من حوله من أبناء هذا الوطن الواحد، ولا يحق لأحد بخسه حقوقه، أو الاعتداء عليه، أو ظلمه، إلى غير ذلك مما أمرت به شريعة الإسلام.
وفي قوله تعالى {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، دليل على الأمر بالبر والعدل عند التعامل مع من يخالفون المسلمين في معتقدهم، وهذه الآية وغيرها فيها رد على من يتطاول على الإٍسلام بعدم العدل والرحمة والبر، ويصفه بالعنف والتشدد والقتل والتدمير.
وهناك الكثير من الآيات في كتاب الله تعالى التي تحض على جميل الصفات والأخلاق والسجايا، سواء بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى.
ومن السنة: هناك الكثير من النصوص الشرعية التي توجه إلى التعاون والتعاضد، وحسن التعامل مع إحقاق الحق لأصحابه حتى ولو كانوا من غير المسلمين.
فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا).
وروى أحمد عن أبي نضرة رضي الله عنه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى.
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(أتشفع في حد من حدود الله). فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال (أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). ثم أمر بقطع يدها.
أما المواطنة عند غير المسلمين فهي ترتبط بالجنس، أو باللغة، أو بالأرض، أو بالمصلحة الخاصة لكل شعب.
فهي تختلف اختلافاً كلياً عن المواطنة في الإسلام حتى ولو احتوت على جزئيات منها، لأنها تبنى على مصلحة خاصة ترتبط بأبناء الوطن الواحد دون غيرهم.
فالمواطنة علاقة والتزام له صبغة سياسية وصبغة اجتماعية ونفسية، وهي صفة ينالها الفرد، ليتمتع بالمشاركة في دولة، أو التزامات متبادلة ما بين الأشخاص والدولة، أو التعبير الاجتماعي لعملية انتماء متبادلة بين الأشخاص والدولة، أو التعبير الاجتماعي لعملية انتماء الإنسان، عملية انتماء تتجسد في قضية المواطنة، وينتمي إلى موطن.
ويقال أيضاً عن المواطنة أنها حالة التزام ما بين الفرد والدولة، فالفرد ملتزم أمام الدولة، والدولة ملتزمة أمام الفرد، فللمواطن حقوق وواجبات، وللدولة حقوق.
وهذه المواطنة تختلف في محتواها عن المواطنة في الإسلام، لأن الأولى تبنى على احترام سيادة القانون، والعمل بمقتضاه، أما في الإسلام فهي حقوق وواجبات تقوم على أوامر الشرع الحنيف، لا يراد منها إلا إقامة الحق والعدل بين الناس على اختلاف الألوان والأجناس.
**المبحث الأول:* الوطنية في ضوء تعاليم الإسلام، ويشتمل على خمسة مطالب:
تعريف الوطن:
الوَطَنُ لغة: المَنْزِلُ تقيم به، وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله.
والجمع: أَوْطان، ... وأَوْطَنَهُ اتخذه وَطَناً، يقال أَوْطَنَ فلانٌ أَرض كذا وكذا أَي اتخذها محلاً ومُسْكَناً يقيم فيها... والمَوْطِنُ المَشْهَدُ من مَشَاهد الحرب وفي التنزيل العزيز {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ..} ، ... أَما المَوَاطِنُ فكل مَقام قام به الإنسان لأَمر فهو مَوْطِنٌ له.
وفي الاصطلاح: الوطن الأصلي هو مولد الرجل، والبلد الذي هو فيه.
وعلى ذلك فالوطن هو المكان الذي يقيم فيه الإنسان ويتخذه مستقراً.
وعرف أيضاً بأنه الأرض التي ينشأ عليها الإنسان ويتخذها مقراً له، وعلى ذلك فإن الأرض التي تنشأ عليها جماعة ما وتتخذها مستقراً ومقاماً لها تعتبر وطناً لتلك الجماعة، والوطن عند أهل السياسة هو مكانك الذي تنسب إليه، ويحفظ حقك فيه، ويعلم حقه عليك، مؤمن فيه على نفسك وأهلك ومالك.
ولكلمة الوطن معان اصطلاحية كثيرة، منها:
·****** الوطن الأصلي: وهو مكان مولد الإنسان ونشأته.
·****** وطن الإقامة: ويسمى أيضاً بوطن السفر، وهو الوطن المستعار، وهو ما خرج المرء إليه بغية الإقامة فيه لمدة محددة من غير أن يتخذه مسكناً.
الكيان الوطني ودعائمه:
إن الكيان الوطني يختلف من دولة إلى دولة، ومن بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، فهو يختلف باختلاف ما يقوم عليه من الأنظمة والقوانين سواء كانت إسلامية أو غيرها من النظم الأخرى.
ففي بلاد المسلمين، وخاصة في البلاد التي تطبق فيها الشريعة الإسلامية فالكيان الوطني فيها يقوم على دعامتين قويتين، وهما: أولاً: الدعامة الدينية، والثانية: الدعامة الإرادية:
فأما الدعامة الدينية: وهي التي تبنى على أسس متينة من العدل والحق، والحكم بما أنزل الله، والأريحية العربية، وتطهير البلاد من الفساد والخرافات والبدع والمنكرات، فهي التي تبني وطناً قوياً متيناً مترابطاً بجميع أفراده، ويعمل الجميع فيه للمصلحة العامة وليست الخاصة.
وأما الدعامة الإرادية: وهي التي تقوم على توطيد أركان الدولة واستقلالها، والدفاع عنها، والعمل على أقامة العدل في ربوعها، وتوزيع الحقوق والمسؤوليات على جميع أبناءها.
فكانت هاتان الدعامتان من أهم ما يقوي الكيان الوطني ما دام أنه قائماً على الحق والعدل والإنصاف والمساواة، والتسامح بين أفراد الرعية، وتحمل المسؤولية في صد العدوان عن هذا الكيان، والعمل على رفع شأنه بين سائر الدول والأوطان.
حدود الوطنية:
إن في كل دولة من الدول، أو بلد من البلدان، أو قارة من القارات حدوداً جغرافية تاريخية، وهي تقوم على الارتباط بالأرض التي يسكن عليها الناس، ويعيشون فيها، وترتبط أيضاً باللغة واللون، وهذه الحدود تختلف باختلاف المكان، فكل قوم من الناس اتخذوا مكاناً يعيشون فيه كان لهم حدود متعارف عليها مع غيرهم، وهذه واضحة بالنسبة لمن ينظر إلى حال العالم اليوم من التقسيم الجغرافي والتاريخي.
فكل بلد يعيش فيها أناس يترابطون برباط الأرض واللغة، فيقومون بعمل كل ما يعود عليهم بالفائدة، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
ولكن في الوطن المسلم لا ينظر إلى هذه الأمور بقدر ما ينظر إلى ترابط الوطن الواحد بالدين، فالدين هو الذي يجمع الناس، ويأخذ بهم إلى بذل الجهد في سبيل إعلاء هذا الوطن بين غيره من الأوطان.
وجميع المسلمين في سائر البلدان هم يعيشون في أوطان متفرقة ولكنهم مرتبطون برباط الدين، فولائهم لدينهم، ومعاداتهم لمن يخالف دينهم.
المطلب الرابع: مفهوم الوطنية في الإسلام لا يتعارض مع الانتماء إلى أمة الإسلام:
إن من المغالطات التي يلقيها بعض الناس سواء من المسلمين أو غيرهم هو وجود تعارض بين الوطنية بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام، وتصوير هذا التعارض هو من الحيل للنيل من حقيقة الإسلام ومكانته في قلوب المسلمين، وهو استغلال للمحبة الغريزية للوطن لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعض مصالح الوطن، وذلك عبر مصادمة بعض أحكام لمطالب الوطنية.
إن الوطنية التي يدعو إليها علماء المسلمين ومفكروهم وغيرهم من سائر طبقات الأمة هي الوطنية المرتبطة بالدين، المتعلقة بالعقيدة، المستقاة من شريعة رب العالمين، والتي تهدف إلى تقوية أواصر مواطني البلد الواحد والأمة الواحدة، ليعمل الجميع في مصلحة وطنهم وأمتهم.
وهذه الوطنية لا تتعارض بمفهومها مع الانتماء لأمة الإسلام، إنما هي فرع من الأمة لأنها تنمي حب الأوطان، وألفتها، والحنين إليها، والانعطاف نحوها، والعمل الجاد الذي يعود بالنفع لها، وهذا بدوره يعود على الأمة جمعاء بالتعاضد والتكاتف والتماسك والنصرة.
إن الوطنية التي تتعارض مع الانتماء لأمة الإسلام هي تلك الوطنية التي تسعى إلى تقسيمها وإضعافها، وبث الخلافات بينها، وإيقاد نار العصبيات والفرق والمذاهب والحزبيات والولاءات، وهذه الوطنية لا يمكن أن يعترف بها أحد أبداً، بل هي مبغوضة لدى كل مسلم غيور على دينه، بل هي مبغوضة لدى كل مواطن حتى من غير المسلمين.
إن الوطنية التي نرجوها هي وطنية مرتبطة أولاً وآخراً بديننا الحنيف، وهي التي تقوم على ما أمر الله به تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الوطنية هي التي تستوعب جميع المواطنين في ديار الإسلام، دون إهدار حقوق الأقليات غير المسلمة، أو المسلمة، من غير إثارة للنعرات القومية المتنوعة.
وهذه الوطنية أيضاً هي التي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم لقيامها على قاعدة التسامح والعدل والإخاء، فهي التي تحترم الواقع، وهي التي تكون أداة بناء واستقرار، لا وسيلة هدم وتفريق، كما هي في غالب الدول التي تطبقها دون إتباع لتعاليم الإسلام الحنيف.
فلابد لنا من العناية بفكرة المواطنة بالمفهوم الإسلامي الشرعي لتجاوز المشكلات، والقضاء على التعددات الدينية، والتحزبات العرقية المتنوعة.
علامات حب الوطن من واقع تعاليم الإسلام:
إن كل إنسان في هذا الكون يقول إنه يحب وطنه، ولكن القليل منهم من يصدق في ذلك. فمحبة الوطن ليست أقوالاً تقال، أو شعارات ترفع، إنما هي أفعال تظهر من المواطن المحب لوطنه، وكل إنسان يتمنى الخير لوطنه ما دام أنه يعيش على ثراه، ويأكل من خيراته، ويتنعم في رخائه وعطائه، ولكن ذلك يختلف باختلاف ما يعيشه الإنسان من أحوال وظروف وملابسات بحسب كل دولة.
فبقدر ما يجده الإنسان من العدل والإنصاف والتعاون وإحقاق الحق ليعيش ظروفاً حياتيه مستقرة بقدر ما يكون حبه لوطنه أقوى وأمتن، ويكون ذلك دافعاً له للعمل لمصلحة وطنه. إن المواطنة الصحيحة للإنسان هي التي ترتبط بصدق محبته لوطنه، وتكون تلك العاطفة، وتلك الرابطة الروحية عاملاً قوياً في أن يؤدي الواجبات التي عليه بطيب نفس، وأن يبذل طاقته وجهده في سبيل رفعة هذا الوطن.
إن جوهر الوطنية الصادقة هو أن يكون المسلم على عقيدة صحيحة سليمة من الشوائب، وأن يؤدي الحق الذي عليه لوطنه، وأن يطيع أولياء أموره في المعروف، مع عدم الخروج عن جماعة المسلمين.
محبة الوطن مرتبطة بمحبته لربه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا وقد قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) إن محبة الوطن لا تكون بالشعارات البراقة الخاوية عن العمل الهادف، ولا ببث الفوضى والفساد، ولا في إزعاج المسلمين وغيرهم ممن يتعايشون معهم، ولا في سرقة خيرات ومقدرات الوطن، أو في تضييع حقوق الناس، إنما المحبة الصادقة تكون بخلاف ذلك، بل هي المحبة التي تقود صاحبها إلى فعل كل خير يعود على وطنه، والابتعاد عن كل شر يؤثر على مسيرة وطنه ورفعة مكانته وشأنه.
ومن العلامات الصادقة على حب الوطن:
·****** أن يقوم المسلم بإصلاح نفسه وأهله ومن حوله، ولا يكون عامل إفساد وهدم في المجتمع، لأن صلاح الأفراد طريق إلى صلاح المجتمع، وصلاح المجتمع طريق إلى صلاح الوطن، وهذا كله يعود على وطنه وأمته بالخير.
·****** أن يحترم مشاعر الناس، بأن يوقر كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويعطف على فقيرهم، وأن يواسي ضعيفهم، وأن يعرف حق جاره، ويحسن معاملة من حوله من أهله، وإخوانه، وزملائه، وعامة الناس.
·****** أن يحترم النظام الذي وضع من أجل مصلحة الناس ويكون حفظاً لهم من الفوضى، وأن يطبق ما يؤمر به إلا إذا كان فيه معصية لله، فلا يقطع إشارة، ولا يخون الأمانة، ولا يقصر في عمله.
·****** أن يطيع ولي أمره في كل ما يصدره من أنظمة لا تخالف الشرع الحنيف، بل هي تعود بالنفع والخير على الوطن والمواطنين.
·****** أن يقوم بمسؤلياته تجاه وطنه، بأداء واجباته، وحفظ مقدراته.
·****** أن يكون أول من يدافع عن وطنه لمن يريد به الشر والفساد والفتنة، وأن يكون من الجنود الذين يحفظون أمنه وسياجه من اعتداء المعتدين، أو إفساد المفسدين، وأن يتعاون على ذلك مع أبناء وطنه.
·****** أن يكون عامل بناء في المجتمع، وأن يحرص على كل ما ينفع وطنه.
·****** أن يبذل جهده في إعلاء شأن وطنه بين الدول الأخرى، وأن يكون قدوة حسنة لغيره. هذه بعض من علامات المحبة الصادقة للوطن، وهناك الكثير ولكن لا يتسع المقام لذكرها، أما غير ذلك فتعتبر دعوى باطلة ليس لها مكان بين أبناء الوطن الواحد إلا من اتصف بغير ذلك منهم، وقليل ما هم.
أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد والمجتمع والأمة،
ويشتمل على خمسة مطالب:
المطلب الأول:* أهمية المواطنة الصالحة وضرورتها في بناء الأمة:
إن المواطنة المتعارف عليها لدى كثير من الناس على مستوى دول العالم لها صورٌ متعددة، وأشكالٌ مختلفة، وذلك لما يكون في قلب المواطن من صدق الانتماء وعدمه، وقوة بذله وعطائه لهذا الوطن، وليتسنى لنا معرفة هذه الصور للمواطنة فقد تم تقسيمها إلى الآتي:
أولاً: المواطنة الإيجابية: وهي التي يكون فيها المواطن شاعراً بقوة انتمائه لوطنه، وقيامه بدور إيجابي في خدمته.
ثانياً: المواطنة السلبية: وهي التي يشعر فيها المواطن بانتمائه لوطنه، ولكنه يكون سلبياً في تعامله مع حقوق وطنه، فلا يقوم بالدور الإيجابي الذي ينفع به نفسه ومجتمعه ووطنه.
ثالثاً: المواطنة الزائفة: وهي التي يكون فيها المواطن منتمياً إلى هذا الوطن، ولكنه يحمل في جوفه شعارات جوفاء جرداء عن العمل الإيجابي، فهو يخالف واقعة الحقيقي بعد الإحساس بإعزاز وطنه.
رابعاً: المواطنة المطلقة: وهي التي يجمع المواطن فيها بين دوره الإيجابي والسلبي تجاه مجتمعه ووطنه وفق الظروف والملابسات التي يعيشها بين أبناء وطنه.
إن الغالب من التربيات المعاصرة التي تقوم بها ديانات أخرى غير الإسلام لا تنشأ أبداً المواطنة الإنسانية الصالحة، إنما هي تربية تسعى إلى إيجاد المواطن الصالح لا المواطن الإنسان الصالح.
ويظهر ذلك من خلال مواطنة الإنسان في موطنه الأصلي، فتجد الإنجليزي في الغالب أنه يتعاون مع بني جلدته لتحقيق المواطنة الصالحة، لكنه لا يحققها مع غيره إذا تعارضت مصالحهم مع مصالحه.
وهكذا غالب جنسيات الدول من حولنا، فمقام كل مواطنة لدى المواطن هو احترام قوانين وأنظمة البلد الذي يعيش فيه المواطن، وأن يقدم كل جهده من أجل خدمة وطنه، ولكن إذا تداخلت مصلحة أحد من غير أبناء وطنه مع مصلحته قدم الأخرى لأنها مواطنة ذاتية فقط ترتبط بحدود ولغات وألوان.
ولو نظرنا إلى هؤلاء المستعمرين الذين استولوا على بلاد غير بلادهم كانوا لا يختلطون بمستعمريهم، إنما كانوا يرون أنفسهم أعلى مقاماً وأجل شأنا منهم.
أما التربية الإسلامية في ديننا الحنيف فهي التي تنشأ الإنسان الصالح والمواطن الصالح، وهذا المواطن هو الذي يراقب الله تعالى في جميع علاقاته سواء مع إخوانه المسلمين أو غيرهم من غير المسلمين.
فيكون الجانب السلوكي الظاهر للمواطنة الصالحة والمتمثل في الممارسات الحيَّة التي تعكس حقوق الفرد وواجباته تجاه مجتمعه ووطنه، والتزامه بمبادىء المجتمع وقيمه وأنظمته، والمشاركة الفعالة في الأنشطة والأعمال التي تهدف إلى رقي الوطن والمحافظة على مكتسباته وخيراته.
وهذا بدوره يعود على الأمة بخير عظيم، وعطاء جزيل، كيف لا ومن كانت هذه حاله لابد أن تثمر مواطنته ثماراً يانعة تعود بالنفع على وطنه وأمته جمعاء.
ومن صدق في محبته لوطنه، وقدم تلك المحبة على مصلحته الشخصية عاد ذلك بالإيجاب على أمته.
وكم كنت أرى وأسمع عن هؤلاء الذين قدموا خدمات جليلة وعظيمة لأوطانهم، وخاصة في التخصصات الدقيقة القليلة على مستوى العالم كله، فكم وصل من أبناء أمة الإسلام إلى العالمية بجدارة واستحقاق لما بذل وأعطى، حتى صارت دولته مضرب المثل، وذكراً حسناً لسائر دول العالم.
فقد تخرَّج من أمة الإسلام علماء الشريعة، والطب، والذرة، وغير ذلك من التخصصات.
وفي هذا دليل عظيم على أن المواطنة الصالحة المصلحة من أعظم السبل في نفع الوطن والأمة.
إن المواطنة الصالحة التي نرجوها لكل مواطن هي تلك المواطنة التي ترتبط بالعقيدة والتي تكون عامل بناء لجميع أفراد الأمة، وتكون أيضاً رحيمة بمن سواهم من الديانات والملل الأخرى، وهناك الكثير من الآثار التي دلت على حسن تعامل المسلمين مع غيرهم في تعايشهم والتعامل معهم.
وهذا يدل على عظم شأن الإسلام، ومكانة المسلمين بين سائر الناس عندما طبق المسلمين المواطنة الصالحة التي أمروا بها ليتعايش الناس كما أمر الله جل وعلا.
التمسك بأخلاق الإسلام دليل على المواطنة الصالحة:
إن من ينظر إلى التوجيهات العظيمة للإسلام وتلك الصفات والسجايا العجيبة التي يوجه بها إلى التعامل الصادق، والعدل بين الناس على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم، يدل على أن المسلم إذا تمسك بتلك الأخلاق وقام بتطبيقها في حياته مع من حوله، واتصف بالرفق والتواضع، ورحمة الناس صغيرهم وكبيرهم، وابتعد عن الظلم والعدوان، كان هذا المسلم من خلال حياته العملية يعتبر عاملاً إيجابياً في المجتمع من خلال ما يقدمه لنفسه ولمجتمعه وأمته.
وها هي بعض من النصوص الشرعية الواردة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتي نرى من خلالها تلك الأخلاق العالية، والسجايا الكريمة التي لم توجد في نظام من الأنظمة القديمة أو الحديثة.
ففي كتاب الله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، فالناس عند الله سواسية كأسنان المشط، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وقيامه على الحق والعدل، وأن أكرم الناس عند الله مهما اختلفت ألوانهم في الدنيا والآخرة هو أتقاهم له. وأيضاً في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(، قال الشعبي عن شتير بن شكل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ.
وقال سعيد عن قتادة قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، ليس من خلق حسن, كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به, وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم, إلا نهى الله عنه وقدم فيه).
وقال الشيخ عبد الكريم الخطيب: هذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها. فهي أقرب شيء إلى أن تكون عنوانا للرسالة الإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}. وما في كتاب اللّه كله هو شرح لما أمر اللّه سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي).
وفي آيات أخرى في كتاب الله تعالى يوجه الله جل وعلا إلى التمسك بالعدل، وأن يطبق بين الناس كافة، فلا يقدم أحد على أحد، ولا يستأثر أحد بحكم دون أحد، بل الجميع سواسية كأسنان المشط.
ففي قوله تعالى{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...} ، وقوله {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..}.
ولو نظرنا إلى العدل الإلهي حتى مع أعداء الملة من غير المسلمين، فهو يأمر سبحانه بإقامة مجتمع إنساني واحد، يعيش الجميع تحت ظله ولا يكون فيه إكراه لأحد، بل هناك حرية لغير المسلم في إقامة دينه في حدود التوجيهات في الدولة المسلمة التي يعيش فيها، ففي ظل هذا الوطن الذي يجمع المسلم وغير المسلم فإن غير المسلم له حق التملك، وله أن يستجير فيجار، وله أن يتحاكم إلى القضاء المسلم لتحصيل حقوقه، وله حق التعامل مع من حوله من أبناء هذا الوطن الواحد، ولا يحق لأحد بخسه حقوقه، أو الاعتداء عليه، أو ظلمه، إلى غير ذلك مما أمرت به شريعة الإسلام.
وفي قوله تعالى {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، دليل على الأمر بالبر والعدل عند التعامل مع من يخالفون المسلمين في معتقدهم، وهذه الآية وغيرها فيها رد على من يتطاول على الإٍسلام بعدم العدل والرحمة والبر، ويصفه بالعنف والتشدد والقتل والتدمير.
وهناك الكثير من الآيات في كتاب الله تعالى التي تحض على جميل الصفات والأخلاق والسجايا، سواء بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى.
ومن السنة: هناك الكثير من النصوص الشرعية التي توجه إلى التعاون والتعاضد، وحسن التعامل مع إحقاق الحق لأصحابه حتى ولو كانوا من غير المسلمين.
فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا).
وروى أحمد عن أبي نضرة رضي الله عنه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى.
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(أتشفع في حد من حدود الله). فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال (أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). ثم أمر بقطع يدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق